تعدو محلها، والحقيقة أن تُجاوز محلها، فالشريعة محلها الظواهر، والحقيقة محلها البواطن، والعقل برزخ بينهما، يقوم بحُكم كل واحدة منهما، فمَن خفَّ عقله غلبت إحداهما عليه، إمّا الشريعة، فيكون يابساً جامداً لا يخلو من فسوق، وإمّا الحقيقة، فيكون إما سكراناً أو زنديقاً. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان؟﴾ حيث هَدى العبدَ إلى القيام بحقهما، وإنزال كل واحدة في محلها، ﴿يَخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ فيخرج من بحر الحقيقة جواهرَ الحِكم ويواقيت العلوم، ومن بحر الشريعة مَرجان تحرير النقول، وتحقيق مبانيها، والإتيان بها من معادنها، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذَّبان﴾ حيث وفَّق غوّاص بحر الحقيقة إلى استخراج أسرارها، وغوّاص بحر الشريعة إلى إظهار أنوارها. ﴿وله الجوارِ﴾، أي: سفن استخراج أسرارها، وغوّاص بحر الشريعة إلى أظهار أنوارها. ﴿المنشأت﴾ في بحر الذات، مع رسوخ عقلها، كالجبل الراسي، فتعوم سفنُ أفكار العارفين في بحر الجبروت وأنوار الملكوت، ثم ترسي في مرساة العبودية، للقيام بآداب الربوبية، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ مع عظيم هذا اللطف الكبير، والمنَّة الكريمة، حيث يتلاطم عليهم أموَاجُ بحر الذات، فيكونوا من المغرقين في الزندقة، أو ذهاب العقل بالكلية، لكن مَنْ صَحبَ رئيسا عارفاً لا يخاف من الغرق إن شاء الله.
﴿
كلُّ مَن عليها فانٍ﴾
كل مَنْ على بساط المملكة فَانٍ متلاشٍ، ﴿ويبقى وجه ربك﴾ أي: ذاته المقدسة، فلا موجود معها على الحقيقة، كما قال الشاعر:
فَالْكُلُّ دُونَ اللَّه إِنْ حَقَّقْتَه
عَدمٌ عَلَى التَّفْصِيل والإجمال
وهذا معلوم عند أرباب الأذواق، مُقرر عند أهل الفناء والبقاء، فلا يجحده إلاَّ جهول، كما قال تعالى: ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾ ؟.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يَسْألُه مَن في السماوات والأرض﴾ مِن ملَكٍ وإنسٍ وجن وغيرهم، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه، كل منهم يسأل حاجته، إما بلسان مقاله، أو بلسان حاله، أهل السموات يسأله قوت أرواحهم، وأهل الأرض قوتَ أشباحهم
فيها "، وعن أنس رضي الله عنه: " صليتُ خلف أبي بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ فسجدوا ". ولعلهم لم يبلغهم نسخ سجدتها.
﴿بل الذين كفروا يُكذّبون﴾ بالقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها، مع تحقُّق موجبات تصديقهم، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته ﴿واللهُ أعلم بما يُوعدون﴾ ؛ بما يُضمرون في قلوبهم، ويُخفون في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، أو: بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء، ويدّخرون لأنفسهم من أنواع العذاب، ﴿فبشَّرهم بعذابٍ أليمٍ﴾ ؛ أخبرهم يظهر أثره على بشرتهم، ﴿إِلاَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات﴾، استثناء منقطع، ﴿لهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ﴾ ؛ غير مقطوع، أو غير ممنونٍ به.
الإشارة: أقسم تعالى بنور بداية الإيمان ونهايته، وما اشتمل عليه ليل الحجاب من أنواع العُمال، فقال تعالى " فلا أُقسم بالشفق "؛ بنور بداية الإيمان، الذي هو كبياض الشفق، " والليل وما وسق "؛ وليل الحجاب، وما اشتمل عليه من العُبّاد والزُهّاد والأبرار والعلماء الأتقياء، وقمر الإيمان إذا جنح نوره، وقَوِيَ دليله " لتَركبُن " أيها السالكون، طبقاً عن طبق؛ حالاً بعد حال، حتى تنتهوا إلى شمس العيان، فأول الأحوال: حال التوبة، ثم حال اليقظة، ثم حال المجاهدة في خرق عوائد النفس، ثم حال المراقبة، ثم حال الاستشراف، على الحضرة، ثم حال المشاهدة، ثم حال المعاينة، ثم حال المكالمة، ثم حال الترقِّي إلى ما لا نهاية له. فما لهم، أي: لأهل الإنكار، لا يؤمنون بسلوك هذا الطريق، وإذا قُرىء عليهم القرآن الدالّ على هذا المنهاج لا يخضعون ولا يتدبرونه حق تدبيره، بل الذين كفروا بطريق الخصوص، يُكّبون بها. والله أعلم بما يوعون في قلوبهم من الأمراض والعيوب، أو من الإنكار، فبشِّرهم بعذاب البُعد والحجاب، إلاَّ الذين آمنوا وصدَّقُوا بطريق الخصوص، وسَلَكوها معهم، لهم آجر، وهو مقام الشهود، غير ممنون؛ غير مقطوع، بل تترادف الأنوار والأسرار والكشوفات إلى غير نهاية، أو: غير ممنون به، بل مواهب من الله بلا مِنّة. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


الصفحة التالية
Icon