في هياكل ذواتكم، وإحاطة دائرة الكون بكم، لا تنفذون إلاّ بسلطانٍ: إلاّ بقوة سلطان أرواحكم على نفوسكم، فتجذبها إلى عالم الروحانية، بصحبة طبيب ماهر، فحيئذ تنفذ بصيرتكم عن دائرة الأكوان، وتُفضوا إلى فضاء العيان، وإذا كان يوم القيامة خرقت أرواحُهم بأشباحهم محيطاتِ الأكوان، وأَفضوا في الهوى إلى سعة الجنان، قال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِين﴾ [الشعراء: ٩٠]، وقد تقدّم معناه.
﴿يُرسل عليكم شُواظ من نار ونُحاس... ﴾ الخ، قال القشيري: يُخاطب معشر جن النفس بإرسال لهب البُعد والقطيعة عليهم، بواسطة انغماسهم وانهماكهم في استيفاء اللذات الجسمانية، والشهوات الحيوانية، على الدوام والاستمرار، ويُخاطب معشر إنس الروح بصب الصُفر المذاب على رؤوسهم، بسبب انحطاطهم من المقام الروحي العلوي، إلى المقام النفس السفلي بالتراجع، ولا يقدر أحدهما على نصرة الآخر. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذّبان﴾ فإنَّ تعذيب مستحق العذاب، وتنعيم متسحق النعيم، والتمييز بين جن النفس العاصي، وبين إنس الروح، من الآلاء العظيمة. هـ. فإذا انشقت السماء الحسية، أي: ذابت وتلاشت بذكر اسم الله عليها من العارف، فكانت وردةً يهب بنسيم المعاني من أكنافها، كالدهان: كالزيت المُذاب، حين تذوب بالفكرة الصافية، والحاصل: أنَّ سائر الكائنات، تذوب وتتلطّف حين تستولي عليها المعاني القائمة بها، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾ مع ظهور هذه النعمة العظيمة، التي خَفِيَتْ عن جُلّ الناس، ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسأل عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ ممن بلغ منهم إلى هذه المرتبة العظيمة، فأهل العيان لم يبقَ في حقهم طاعة ولا عصيان، فلا يتوجه إليهم سؤال ولا عتاب، وفي مناجاة الحق لسيدنا موسى عليه السلام: لا يا موسى إنما يُطيعني ويعصيني أهل الحجاب، وأما مَن لا حجاب بيني وبينه فلا طاعة في حقه ولا معصية. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: يبلغ الولي مبلغا يُقال له: افعل ما شئت، أصحبناك السلام، وأسقطنا عنك الملامة. هـ. وهذا بعد محق أوصاف النفس، وبعد التحقق بالفناء والبقاء. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يُغْرَفُ المجرمون﴾ أي: الكفرة ﴿بسيماهم﴾ بسواد وجوههم، وزُرقة عيونهم، أو: بما يعلوهم من الكآبة والحزن. قيل: هو تعليل لقوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسأل عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ أي: لا يُسألون لأنهم معروفون، ﴿فيُؤخذُ بالنواصي والأقدام﴾ أي: يُجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم،
﴿وهم معلى ما يفعلون بالمؤمنين﴾ من الإحراق ﴿شُهودٌ﴾ يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنَّ أحداً منهم لم يُقَصِّر فيما أمر به، وفوّض إليه من التعذيب، أو:: إنهم ﴿شهود﴾ يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة، يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم، وقيل: " على " بمعنى " مع " أي: وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور، ولا يَرقّون لهم، لغاية قسوة قلوبهم. وهذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم، وتنطق به الروايات المشهورة.
وقد رُوي أنَّ الجبابرة لمّا ألقوا بالمؤمنين في النار، وهم قعود عليها، علقت بهم النار، فاحترقوا، ونجّا اللهُ المؤمنين سالمين، وإلى هذا القول ذهب الربيعُ بن أنس والواحدين وعلى ذلك حملا قوله تعالى: ﴿ولهم عذاب الحريق﴾.
﴿وما نَقَمُوا منهم﴾ أي: وما عابوا منهم وأنكروا عليهم، يقال: نقم ـ بالفتح والكسر: عاب، أي: عابوا منهم ﴿إِلاَّ أن يؤمنوا بالله﴾ وهذا كقول الشاعر:
ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ
بِهِنَّ فُلولٌ مِنْ قِرَاع الكتائبِ
وكقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: ٤٠] وعبّر بلفظ المضارع، ولم يقل: إلاَّ أن آمنوا، مع أنَّ القصة قد وقعت، لإفادة أنَّ التعذيب إنما كان دوامهم على الإيمان، ولو كفروا بالرجوع عن الإيمان في المستقبل لم يعذبوهم. وقوله تعالى: ﴿العزيزِ الحميدِ﴾، ذكر الأوصاف الذي يستحقّ بها أن يؤمن به، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً، يُخشى عقابه، حميداً منعماً، يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه، ليقرر أنَّ وصف الإيمان الذي عابوا منهم وصف عظيمٌ، له جلالة، وأنَّ مَن رام صاحبه بالانتقام والعيب كان مبطلاً مبالغاً في الغي، يستحق أن ينتقم منه بعذابٍ لا يُقادر قدره.
﴿
الذي له ملكُ السمواتِ والأرضِ﴾ فكل مَن فيها يحق عليه عبادته والخضوع له، ﴿واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ﴾ وعيد لهم شديد، يعني: أنه تعالى عَلِمَ بما فعلوا وسيجازيهم عليه.
﴿إِنَّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات﴾ أي: محقوهم في دينهم ليرجعوا عنه، والمراد بهم: إمّا أصحاب الأخدود خاصة، وبالمفتونين: المطروحين في الأخدود، وإمّا الذين بَلوْهم في ذلك بالإذاية والتعذيب على الإطلاق، وهم داخلون في جملتهم دخولاً أولياً. قال ابن عطية: الأشبه أنَّ المراد بهؤلاء قريش، حيث طانوا يُعَذَّبون مَن أسلم، ويقويه بعض التقوية: قوله تعالى: ﴿ثم لم يتوبوا﴾ لأنه رُوي: أنّ أصحاب الأخدود ماتوا على كفرهم، وأمّا قريش فكان منهم مَن تاب بعد نزول الآية. هـ. مختصراً. {فلهم عذابُ