والله أكبر، غرس له بها ألف شجرة في الجنة، أصلها الذهب، وفرعها الدر، وطلعها كثدي الأبكار، ألين من الزبد، وأحلى من العسل، كلما أُخذ منها شيء عاد كما كان، وذاك قوله تعالى: ﴿وجَنَى الجنتين دانٍ﴾ إذا أرادوه أتى إلى أفواههم، حتى يتناولون من غير مشقة، ويقال: ينالها القائم والقاعد والنائم. هـ. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾، ﴿فيهن﴾ أي: الجنتين؛ لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس، أو: في هذه الآلاء المعدودة، من الجنتين والعينين والفاكهة والغرس والجَنْي، ﴿قاصراتُ الطَّرْفِ﴾ جَوار قَصَرْنَ أبصارَهنّ على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، ﴿لم يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ﴾ أي: لم يمس الإنسيات أحدٌ من الإنس، لا الجنيات أحدٌ من الجن. والطمث: الجماع بالتدمية. وفي الآية دليل على أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس. ﴿فبأي آلاء رَبكما تُكذِّبان كأنهنَّ﴾ أي: تلك الجوار ﴿الياقوتُ﴾ صفاءً ﴿والمَرْجانُ﴾ بياضاً، على أنَّ المرجان صغار الدر، أو: في الصفاء وحُمرة الوجه. قيل: إنَّ الجواري تلبس سبعين حلة، فيُرى مُخ ساقها من ورائها، كام يرى الشراب الأحمر في الزجاجة. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾.
﴿هَلْ جزاءُ الإِحسان إِلاَّ الإِحسانُ﴾ هو استئناف مقرر لِمَا فصّل قبله، أي: ما جزاء الإحسانِ في العمل إلاّ الإحسانُ في الثواب، قال أنس: قرأها النبي ﷺ فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قال: هل جزاءُ مَن أنعمتُ عليه بالتوحيد إلاّ الجنة " وفي لفظ آخر: " هل جزاء مَن أنعمت عليه بتوحيدي ومعرفتي إلاّ أن أُسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي " أو: هل جزاء مَن قال " لا إله إلا الله " إلاَّ الجنة. قال السدي: هل جزاء الذين أطاعوا في الدنيا إلاّ الكرامة في الآخرة. وقال جعفر الصادق: هل جزاء مَن أحسنتُ إليه في الأزل إلاَّ حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الحسن: هي مسجلة - أي مطلقة - للبر والفاجر، للفاجر في دنياه، وللبَر في عُقباه. هـ. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾.
الإشارة: ﴿ولمن خاف مَقام ربه﴾ فرَاقَبه، ثم شاهَده، ﴿جنتان﴾ جنة المعارف مُعجّلة، وجنة الزخارف معها مُؤجلة، أو: جنة المعارف لأرواحهم، وجنة الزخارف لأشباحهم. قال القشيري: جنتان: جنة مُعَجَّلة من حلاوة الطاعة ورَوْح القرب، ومؤجَّلة في الآخرة، وهي جنة الثواب، وهم مختلفون في جنان الدنيا على قدر تفاوت مقادير أحوالهم، كما يختلفون في الآخرة في درجاتهم. هـ. فجنة حلاوة الطاعة لأهل اليمين، وجنة روح القرب للمقربين. قال الورتجبي: جنتان: جنة المشاهدة وجنة المكالمة، جنة
وصول الشياطين إليه. واللوح عند الحسن: شيء يلوح للملائكة يقرؤونه، وعن ابن عباس رضي الله عنه: هو من درّة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، قلمه نور، وكل شيءٍ فيه مسطور. قال مقاتل: هو عن يمين العرش، وقيل: أعلاه معقود بالعرش، وأسفله في حِجْرِ ملَك كريم هـ.
الإشارة: إنَّ الذين آمنوا إيماناً حقيقيًّا شهوديًّا، وعملوا الصالحات بأيدي القلوب والأرواح والأسرار، يعني العمل الباطني، لهم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم، ذلك هو الفوز الكبير والسعادة العظمى. إنَّ بطش ربك بأهل الإنكار الجاحدين لأهل الخصوصية لَشَدِيد، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، إنه هو يُبدىء ويُعيد، يُبدىء الحجاب للمحجوبين، ويُعيد الشهود للعارفين، وهو الغفور للتائبين المتوجهين، الودود للسائرين المحبين. قال الورتجبي: الغفور للجنايات، الودود بكشف المشاهدات. هـ. ذو العرش: ذو السلطة القاهرة على العوالم العلوية والسفلية. قال الورتجبي: وصف نفسه بإيجاد العرش، ثم وصف نفسه بالشرف والتنزيه، أي: بقوله: ﴿المجيد﴾ إعلاماً بأنه كان ولا مكان، والآن ليس في المكان، إذ جلاله وجماله منزَّه عن مماسة المكان، والحاجة إلى الحدثان. هـ. قال القشيري: ويجوز أن يكون المراد بالعرش: قلب العارف المستَوي للرحمن، كما جاء الحديث: " قلب العارف عرش الله " هـ.
فعّال لما يُريد، يُقرِّب البعيد ويُبعد القريب إن شاء. قال القشيري: إنْ أراد أن يجعل أرباب الأرواح من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك، وهو عادل في ذلك، وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك. هـ. فلذا كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، هل أتاك حديث الجنود، أي: جنود النفس التي تُحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض الأسفل، ثم فسّرها بفرعون الهوى، وثمود حب الدنيا، والطبع الدني. بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب، لهذا كله، فلا يُفرقون بين الروح والنفس، ولا بين الفرق والجمع، والله من ورائهم محيط، لا يفوته شيء، لإحاطة المحيط بالأشياء ذاتاً وصفاتاً وفعلاً، بل هو ـ أي: ما يوحي إلى الأسرار الصافية، والأرواح الطاهرة ـ قرآن مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ عن الخواطر والهواجس الظلمانية، وهو قلب العارف. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


الصفحة التالية
Icon