على الأعراف، وهي تختلف باختلاف الأقطار. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ ولا شيء منها يقبل الإنكار.
﴿
فيهنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ﴾
أي: في الجنتين المشتملتين على قصور ومساكن نساء ﴿خيرات﴾ أي: فاضلات الخُلُق، حِسان الخَلْق، وهو مخفف من " خير " بالتشديد، وقرئ (خيِّرات) على الأصل، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾. ﴿حُورٌ﴾ بدل من " خيرات " ﴿مَقصوراتٌ في الخيام﴾ قُصِرن في خدورهن. يقال: امرأة قصيرة وقَصُورة، ومقصورة، أي مخدّرة، أو: مقصورات الطرف على أزواجهن ساكنة في الخيام. قال القشيري: قصرن أنفسَهن وقلوبَهن وأبصارَهن على أزواجهن. هـ. يقلن: نحن الناعماتُ فلا نبأس، الخالداتُ فلا نَبيدُ، الراضيات فلا نَسْخَط. وفي خبر: أن عائشة قالت: " إنَّ المؤمنات أجَبْنَهُنَّ، نحن المُصلِّياتُ وما صلَّيْتُنَّ، نحن الصائمات وما صُمتُنَّ، نحن المتصدِّقاتُ وما تصدَّقْتنَّ، قالت عائشة: فغلبنهن ". والخيام من الدر المجوف، ﴿فبأي آلاء ربكنما تُكَذِّبان﴾. ﴿لم يَطْمِثْهُن إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾.
﴿متكئين﴾ نصب على الاختصاص، ﴿على رَفْرَفٍ﴾ هو كل ثوب عريض، وقيل: هو الوسائد، والأظهر من الحديث أنه سرير مفروش بثياب خُضر، يركب فيه أهل الجنة، ويسير بهم حيث شاؤوا، وقوله: ﴿خُضْرٍ﴾، وصف لرفرف؛ لأنه مُحلّى بثيابٍ خُضر، والرفرف: إما اسم جنس، أو اسم جمع، واحده: رفرفة. ﴿وعبقريٍّ حِسَانٍ﴾ أي: طنافس، وهي جياد البُسط، كالزرابي وشبهها. والعبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد الجن، يسبون إليه كل شيء عجيب. وقال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يُعمل فيها الوَشي، فينسب إليها كل مبالغ في الوصف، وقال الخليل: كل جليل فاضل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبْقري، ومنه قوله ﷺ في عمر: " فلم أرَ عَبْقريّاً من الناس يَفْرِي فَرْيَه " والمراد به الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾ قال النسفي: وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: [ومن دونهما] لأنَّ ﴿مدهامتان﴾ دون ﴿ذواتا أفنان﴾، و ﴿نضّاختان﴾ دون ﴿تجريان﴾، و ﴿فاكهة﴾ دون ﴿من كل فاكهة زوجان﴾، وكذلك صفة الحور والمتّكأ. هـ.
﴿تبارك اسمُ ربك﴾ أي: تنزّه وتقدّس، أو تكاثر خيره. وفيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام، ﴿ذي الجلال﴾ ذي العظمة. وقرأ الشامي بالرفع، صفة لاسم، ﴿والإكرام﴾ لأوليائه بالإنعام.
اليوم الذي تُفضح فيه السرائر، ﴿فما له مِن قوةٍ﴾ في نفسه يمتنع بها ﴿ولا ناصرٍ﴾ ينتصر به ويدفع عنه غير الله تعالى. ولمّا كان رفع المكان في الدنيا إمّا بقوة الأنسان، وإمّا بنصر غيره له، أخبر الله بنفيهما يوم القيامة.
الإشارة: أقسم تعالى بقلب العارف، لأنه سماءٌ لشمس العرفان وقمرِ الإيمان ونجوم العلم، وبما يطرقه من الواردات الإلهية والنفحات القدسية، ثم نوّه بذلك الطارق، فقال: ﴿وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب﴾ أي: هو نجم العلم الثاقب لظلمة الجهل، إمّا جهل الشرائع أو جهل الحقائق. إن كُلُّ نفس لما عليها حافظ، وهو الله، فإنه رقيب على الظواهر والبواطن، ففيه حث على تدقيق المراقبة ظاهراً وباطناً. فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق في عالم الحكمة من جهة بشريته، خُلق من ماء دافق، يخرج من محل البول ويقع في محل البول، فإذا نظر إلى أصل بشريته تواضع وانكسر، وفي ذلك عِزُّه وشرفُه، مَن تواضع رفعه الله. وفيه روح سماوية قدسية، إذا اعتنى بها وزكّاها، نال عز الدارين وشرف المنزلين " مَن عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربه " فالإنسان من جهة بشريته أرضي، ومن جهة روحانيته سماوي، والحُكم للغالب منهما. إنه على رجعه: أي: رده إلى أصله، حين برز من عالم الغيب، بظهور روحه، لقادر، فيصير روحانيًّا سماويًّا، بعد أن كان بشريًّا أرضيًّا، وذلك يوم تُبلى السرائر بإظهار ما فيها من المساوىء، ليقع الدواء عليها، فتذهب، فمَن لم يَفضح نفسه لم يظفر بها، فما لها من قوةٍ على جهادها وإظهار مساوئها بين الأقران إلاّ بالله، ولا ناصر ينصره على الظفر بها إلاَّ مِن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والسماءِ ذات الرجع﴾ أي: المطر، لأنه يرجع حيناً بعد حين، وسمَّته العرب بذلك تفاؤلاً، ﴿والأرضِ ذات الصَّدْع﴾ أي: الشق، لأنها تنصدع عن النبات والأشجار، لا بالعيون كما قيل، فإنَّ وصف السماء بالرجع، والأرض بالشق، عند الإقسام بها على حقيّة القرآن الناطق بالبعث؛ للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده، وهو السر في التعبير عنه بالرجع والصدع، لأنَّ في تشقُّق الأرض بالنبات محاكاة للنشور، حسبما ذكر في مواضع من القرآن، لا في تشققها بالعيون. ﴿إِنه﴾ أي: القرآن ﴿لَقَولٌ فَصْلٌ﴾ ؛ فاصل بين الحقّ والباطل، كما قيل له: فرقاناً، وصفَه بالمصدر، كأنه نفس الفعل، ﴿وما هو بالهزلِ﴾ أي: ليس في شيء منه شائبة هزل، بل كله جد محض، ومِن حقه ـ حيث وصفه الله بذلك ـ أن يكون مُهاباً في الصدور، معظماً في القلوب، يرتفع به قارئه وسامعه، ويهتدي به الغواة، وتخضع له رقاب العُتاة.


الصفحة التالية
Icon