على " ولدان " أي: وتخدمهم حُور عين، زيادة في التعظيم، ومَن قرأ بالخفض عطفه على " جنات النعيم " كأنه قيل: هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم طير وحور ﴿كأماثلِ اللؤلؤ المكنونِ﴾ في الصفاء والنقاء. والمكنون: المصون في صَدفه. وقال الزجاج: كأمثال الدُرِّ حين يخرج من صدفه، لم يُغيرّه الزمان واختلاف الأيدي عليه، ﴿جزاء بما كانوا يعملون﴾ مفعول له، أي: يفعل بهم ذلك لجزاء أعمالهم الصالحة أو: مصدر، أي: يُجزَون جزاء، فنفس الدخول للجنة بمحض الرحمة، وكثرة النعيم والغُرف بالعمل، والترقي باليقين والمعرفة - والله تعالى أعلم - فلا تعارض.
﴿لا يَسْمَعون فيها﴾ في الجنة ﴿لَغواً﴾ باطلاً ﴿ولا تأثيماً﴾ هذياناً، أو: ما يُؤهم صاحبه لو كف، ﴿إِلاَّ قِيلا﴾ أي: قولاً ﴿سلاماً سلاماً﴾ أي: ذا سلامة. والاستثناء منقطع، و " سلاماً " بدل من " قيلاً " أو: مفعول به لـ " قيلاً "، أي: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً، والمعنى: أنهم يُفشون السلام فيُسَلِّمون سلاماً بعد سلام، أو: لا يسمع كلٌّ من المسلِّم والمسلِّم عليه إلا سلام الآخر بدءاً ورداً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أخبر تعالى أنّ المقربين في الصدر الأول أكثر من الزمان الأخير، وهو كذلك من جهة الكمية، وأما من جهة الكيفية فالمقربون في آخر الزمان أعظم رتبةً، وأوسع علماً وتحقيقاً؛ لأنهم نهضوا في زمان الغفلة، وجدُّوا في زمان الفترة، لم يجدوا من أهل الجدّ إلا قليلاً، ولا من أهل الحق إلا نذراً يسيراً، فحيث نهضوا وحدهم عوّضهم الله مرتبة لم يعطها لغيرهم، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: " اشتقت إلى إخواني " قال أصحابه، نحن إخوانُك يا رسول الله؟ قال: " أنتم أصحابي، إخواني قوم يأتون بعدي، مِن نعتهم كذا وكذا " ثم قال: " يعدل عمل واحد منهم سبعين منكم " قالوا: يا رسول الله منهم؟ قال: " منكم " قيل: بماذا يا رسول الله؟ قال: " إنكم وَجَدْتُم على الخير أعْواناً، وهم لم يجدوا عليه أعواناً " وفي حديث آخر، رواته ثقات: قالوا: يا رسول الله؛ هل أحد خير منا؟ قال: " قوم يجيئون بعدكم، فيجدون كتاباً بين لوحين، يؤمنون بما فيه، ويؤمنون بي، ولم يروني، ويُصَدِّقون بما جئتُ به، ويعملون به، فهم خير منكم "، ولا يلزم من تفضيلهم مِن جهةٍ تفضيلهم مطلقاً.
ثم وصف المقرّبين بكونهم على سُرر الهداية، منسوجة بالعِز والعناية، محفوفة بالنصر والرعاية، متكئين عليها، راسخين فيها، متقابلين في المقامات والأخلاق، أي: يواجه بعضهم بعضاً بقلوبهم وأسرارهم، لا تَباغض بينهم ولا تحاسد، تطوف عليهم الأكوان وتخدمهم، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكوّن، فإذا شهدت المُكوِّن كانت الأكوان معك ": يُسقون بأكوابٍ وأباريق من علم الطريق، وكأس من خمر الحقيقة، فلا
حديث آخر: " إنَّ أودَّ الأوِدَّاءِ إليَّ مَن يحبني إلى عبادي، ويحبِّب عبادي إليّ، ويمشي في الأرض بالنصيحة " أو كما قال عليه السلام:
﴿سَيذَّكَّر مَن يخشى﴾ أي: ينتفع بتذكيري مَن يخشى الله، وسبقت له العناية، ويتجنّبها الأشقى: أي: ويعرض عنها مَن سبق له الشقاء. قال القشيري: الشقي: مَن يعرف شقاوته، والأشقى: مَن لا يعرف شقاوته، الذي يصلى النار الكبرى، وهي الخذلان والطرد والهجران، والنار الصغرى: تتبع الحظوظ والشهوات. هـ. ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى، أي: لا تموت نفسه عن هذا، ولا تحيا روحه بشهود هؤلاء. قد أفلح مَن تَزَكَّى، أي: فاز بالوصول مَن تطهَّر مِن هوى نفسه، بأن طَهَّر نفسه من المخالفات، وقلبه من الغفلات والدعوات، وروحه من المساكنات إلى الغير، وسره عن الأنانية، بل تُؤثرون الحياة الدنيا عن التوجُّه إلى الحضرة القدسية، والدار الآخرة التي يدوم فيها الشهود خير وأبقى، وهذا الأمر، وهو التزهيد في الدنيا، والتشويق إلى الله، في صُحف الرسل والأنبياء، قال القشيري: لأنَّ التوحيد والوعد والوعيد لا يختلف في الشرائع. هـ. وقال الورتجبي: (إنَّ هذا) أي: الخروج عما سوى الله بنعت التجريد، في صحف إبراهيم، كما قال: ﴿إِنِّي بَرِياءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٧٨] والإقبال على الله، بقوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ [الأنعام: ٧٩] الخ. وفي صحف موسى: سرعة الشوق إلى جماله والندم على الوقوف في المقامات: بقوله: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٣]. هـ. أي: وبقوله: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىا﴾ [طه: ٨٤]. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.


الصفحة التالية
Icon