رأس كل خطيئة، وكانوا يُنكرون بعث الأرواح من الجهل إلى العرفان، ويقولون: ﴿أئذا مِتْنا وكنا ترابا﴾، أي: أرضيين بشريين، وعظاماً يابسين بالقسوة والبُعد، ﴿أئنا لمبعوثون﴾ من هذه الموتة إلى حياة أرواحنا بالعلم والمعرفة؟ والحاصل: أنهم كانوا ينكرون وجود أهل التربية؛ الذي يُحيي اللهُ بهم القلوبَ والأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة. قل إنَّ الأولين منكم الذين كانوا على هذا الوصف، والآخرين إلى يوم القيامة، لمجموعون إلى الحضرة، إذا صَحِبوا أهل التربية، فيفتح الله عليهم إلى ميقات يوم معلوم، وهو الحد الذي سبق لفتحهم. ثم إنكم أيها الضالون المكذّبون المنكِّرون لوجود الطبيب، الذي يُحيي الأرواح الميتة والقلوب، ﴿لآكلون من شجر من زقوم﴾ وهي شجرة الجهل وتوارد الشكوك والخواطر على قلوبكم، فمالئون منها بطونكم، بحيث لا يبقى في بواطنكم متسع لأنوار اليقين والمعرفة، فشاربون على ذلك من الحميم، وهو الغضب والتدبير والاختيار، ﴿فشاربون شُرب الهيم﴾، لا يملُّون منه ليلاً ولا نهاراً، كذا يَظلُّون يَبنون ويَهدمون، وهو عين البطالة والتضييع. ﴿هذا نُزلهم يوم الدين﴾، أي: يوم يُجازِي الحقُّ المتوجهين إليه بالوصال وراحة الاتصال. ﴿نحن خلقناكم﴾ : أنشأناكم من العدم، فلولا تُصدِّقون في إحياء أرواحكم بالعلم والمعرفة بعد موتها، فإنّ القادر على إنشاء الأشباح قادر على إحياء الأرواح. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: ﴿أفرأيتم ما تُمْنُون﴾ أي: تقذفونه في الأرحام من النُطف، ﴿أأنتم تخلقونه﴾ تُقدِّرونه وتُصورونه وتجعلونه بشراً سويّاً ﴿أم نحن الخالقون﴾ من غير علة ولا علاج "؟ قال الطيبي: وجه الاستدلال بهذه الآية على البعث أن يُقال: إنّ المَني إنما يحصل من فضلة الهضم، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء، وبهذا تشترك الأعضاء بالتذاذ الوقاع لحصول الانحلال عنها كلها، ثم إنّ الله سبحانه وتعالى يُسلط قوة الشهوة على البنية، حتى إنها تجمع تلك الأجزاء الطلّية، والحاصل أن تلك الأجزاء كانت مفْترقة جدّاً أولاً في أطراف العالم، ثم إنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان، فتفرّقت في
الإيمان، لكن مَن تولى وكفر، فإنَّ لله الولاية والقهر، فهو يعذبه العذاب الأكبر، وهو عذاب جهنم، وقيل: متصل من قوله: (فذكر) أي: فذَكِّر إلاَّ مَن انقطع طمعك من إيمانه وتولَّى، فاستحق العذاب الأكبر، وما بينها اعتراض.
﴿إِنَّ إِلينا إِيابهم﴾ ؛ رجوعهم، وفائدة تقديم الظرف: التشديد في الوعيد، وأنَّ إيابهم ليس إلاَّ للجبّار المقتدر على الانتقام، ﴿ثم إِنَّ علينا حسابهم﴾ فنُحاسبهم على أعمالهم، ونجازيهم جزاء أمثالهم، و " على " لتأكيد الوعيد لا للوجوب، إذ لا يجب على الله شيء. وجمع الضمير في إيابهم وحسابهم، باعتبار معنى " من "، وإفراده فيما قبله باعتبار لفظها، و " ثم " للتراخي في الرتبة لا في الزمان، فإنَّ الترتيب الزماني إنما هو بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم. انظر أبا السعود.
الإشارة: ما قيل للرسول يُقال لخلفائه من أهل التذكير، ومَن تولَّى منهم يُعذَّب بعذاب الفرق والحجاب وسوء الحساب. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.