بمقدح الطلب في حراقة قلب المحب الصادق في سلوكه وشجرتها هي العناية الإلهية، يدل على هذا قول العارف أبي الحسن المنصور - قدّس الله سره - حين سُئل عن حقيقة المحبة، فقال: هي العناية الإلهية السرميدة، لولاها مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب ولا الإيمان، فنحن جلعناها تذكرة لأرباب النفوس البشرية، ليهدتوا بها إلى سلوك طريق الحق، ومتاعاً للمُوقين، أي غذاء أرواح المحبين، الطاوين أياماً وليالي من الطعام والشراب، كا رُوي عن سهل التستري: أنه كان يطوي ثلاثين يوماً، وعن أبي عقيل المغربي: أنه ما أكل ستين سنة وهو مجاور بمكة، وعن كثيرين من السالكين المرتاضين. هـ.
وقوله تعالى: ﴿فسبِّح باسم رَبِّكَ العظيم﴾ قال الورتجبي: أَمَرَه أن ينزهه لا بنفسه بل بربه، ثم قال: والاسم والمسمى واحد، أي: قدسني بي فإني أعظم من أن تُقدسني بنفسك، أو بشيء دوني، ألا ترى إشارة قوله: ﴿العظيم﴾ أي: عظم جلاله أن يبلغ إلى أن تمدحه الخليقة، وأن تصِفة البرية. هـ.
قلت: " فلا ": صلة، كقوله: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ... ﴾ [النساء: ٦٥]. ومَن قرأ باللام فهي لام الابتداء، دخلت على مبتدأ محذوف، أي: فلأنا أُقسم، ولا يصح أن تكون للقسم؛ لأنها لا بد أن تقرن بنون التوكيد.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فلا أُقِسِمُ بمواقعِ النجومِ﴾ بمساقطها ومغاربها. وقرأ الأخَوان " بموقع " على الإفراد، وتخصيصها بالقَسَم لِمَا في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، أو: لأنّ ذلك وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه تعالى، وأوان نزول الرحمة والرضوان عليها، واستعظم ذلك بقوله: ﴿وَإِنَّهُ لقَسَم لَّوْ تَعْلَمُونَ عظيمٌ﴾ وهو اعتراض في اعتراض، لأنه اعتراض بين القسم والمقسَم عليه بقوله: ﴿إِنه لقرآن كريمٌ﴾ أي: حسن مرضيّ، أو نفّاع جمّ المنافع؛ لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد، أو: كريم على الله تعالى، واعترض بين الموصوف وصفته بـ ﴿لو تعلمون﴾ وجواب " لو " متروك، أريد به نفي علمهم، أو: محذوف، ثقةً، والتقدير: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ ذلك، لكن لا تعلمون كُنه ذلك، أو: لو تعلمون ذلك لعظمتموه، أو: لعملتم بموجبه، ﴿في كتابٍ مكنون﴾ مَصون من غير المقربين من
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ ربك لبالمرصاد﴾، قال ابن عباس: بحيث يرى ويسمع فلا يعزب عنه شيء، ولا يفوته أحد، فتجب مراقبته لا الغفلة عنه في الانهماك في حب العاجلة، كما أشار إليه بقوله: ﴿فأمّا الإنسان..﴾ الخ، فإنه بضد المراد مما تقتضيه حال المراقبة لمَن بالمرصاد. هـ. وأصل المرصاد: المكان الذي يترقّب فيه الرَّصَد، أي: الانتظار، مفعال، من: رصَده، كالميقات من وقته، وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة، وأنهم لا يفوتونه، قال الطيبي: لمّا بيّن تعالى ما فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون، حيث صَبَّ عليهم سوط العذاب، أتبعه قوله: ﴿إِنَّ ربك لبالمرصاد﴾ تخلُّصاً، أي: فعل بأولئك ما فعل، وهو يرصد هؤلاء الكفار الذين طغوا على أفضل البشر وسيد الرسل، مما جاء به من الأمر بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، والنهي عن سفسافها، ورذائلها، فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب، ويُعذبهم في الآخرة عذاباً فوق كل عذاب، كما قال: ﴿لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾ [الفجر: ٢٥].
ثم فصل أحوال الناس بعد أن أعلم أنه مطلع عليهم، فقال: ﴿فأمّا الإِنسانُ﴾، فهو متصل بما قبله، كأنه قيل: إنه تعالى بصدد مراقبته أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيراً أو شرًّا ﴿فأمّا الإنسان﴾ الغافل فلا يهمه ذلك، وإنما مطمح نظره ومرصد أفكاره الدنيا ولذائذها، ﴿إِذا ما ابتلاه ربُّه﴾ أي: عامله معاملة مَن يبتليه ويختبره ﴿فأكْرَمَه ونَعَّمه﴾، الفاء تفسيرية، فالإكرام والتنعُّم هو عين الابتلاء، ﴿فيقول ربي أكرمنِ﴾ أي: فضّلني بما أعطاني من الجاه والمال حسبما كنت أستحقه، ولا يخطر بباله أنه أعطاه ذلك ليبلوه أيشكر أم يكفر، وهو خبر المتبدأ الذي هو " الإنسان "، والفاء لما في " أمَّا " من معنى الشرط، والظرف المتوسط على نية التأخُّر، كأنه قيل: فأمّا الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام، وإنما قدّمه للإيذان من أول مرة بأنّ الإكرام والتنعُّم بطريق الابتلاء. ونقل الرضي أن " إذا " هنا جزائية، فقال: وقد تقع كلمة الشرط مع الشرط في جملة أجزاء الجزاء، ثم استشهد بالآية، وقال: والتقدير: فمهما يكن من شيء فإذا ابتلاه يقول. هـ. وقال المرادي: إذا توالى شرطان دون عطف فالجواب لأولهما، والثاني مقيد للأول، كتقييده بحال واقعة موقعه، ثم استشهد بما حاصله في الآية: فأمّا الإنسان حال كونه مبتلى فيقول... الخ، فالشرط الثاني في معنى الحال، والحال لا تحتاج إلى جواب. هـ. مختصراً انظر الحاشية الفاسية.