واليسير. هـ. قلت: المشهور في الحائض والنفساء جواز القراءة مطلقاً. وقال الكواشي عن ابن عطاء: لا يفهم إشارات القراءة إلاَّ مَن طَهَّر سره من الأكوان. هـ. وفي آخر البخاري؛ " لا يمسه ": لا يجد طعمه ونَفْعَه إلاَّ مَن آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلاَّ المؤمنُ لقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ﴾ [الجمعة: ٥]. هـ.
﴿تنزيلٌ من رب العالمين﴾ : صفة رابعة للقرآن، أي: نزل من رب العالمين، وُصف بالمصدر؛ لأنه نزل منجّماً من بين سائر الكتب، فكأنه في نفسه تنزيل، ﴿أفبهذا الحديثِ﴾ أي: القرآن ﴿أنتم مُّدْهِنون﴾ متهاونون به، كمَن يُدهن في بعض الأمر، أي: يلين جانبه، فلا يتصلّب فيه تهاوناً به. قال ابن عطية: قال ابن عباس: المداهنة هي المهاودة فيما لا يحل، والمداراة: المهادوة فيما يحل. هـ.
﴿وتجعلون رزقَكم أنكم تُكذِّبون﴾ أي: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر. وفي قراءة عليّ رضي الله عنه، وهي مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿وتجعلون شكركم أنكم تكذِّبون﴾ أي: وتجعلون شكركم لنعمة القرآن التكذيب. وقيل: نزلت في الأنواء ونسبة الأمطار إليها، أي: وتجعلون شكر ما رزقكم الله من الغيث أنكم تكذّبون كونَه من الله، حيث تنسبونه إلى النجوم، وتقولون: مُطرنا بنوء كذا، والمنهي إنما هو اعتقاد التأثير للنجوم، لا من بابا العلامة وقيل: مطلقاً، سدّاً للذريعة، وهو مقتضى كلام ابن رشد، وعزاه لسحنون. والمسألة خلافية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا ذُكرت النجوم فأمْسِكوا "، ومنهم مَن فصّل في المسألة، فقال: يجوز إضافة الأفعال السيئة إليها لقوله صلى الله عليه وسلم: " تعوّذوا بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب " وأشار إلى القمر. وأما الحسنة فالشكر يقتضي إضافتها إلى الله، وكذا الأدب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مواقع النجوم هي أسرار العارفين؛ لأنه يغرق في بحارها كل ما سوى الله، وتغيب فيها نجوم العلم العقلي والنقلي، وأقمار التوحيد البرهاني؛ لأنه إذا أشرقت في قلوبهم شمس العرفان، لم يبقَ لنور النجوم والقمر أثر، وقد قلت في قصيدتي العينية:
تبدّت لنا شمسُ النهارِ وأشرقتْ
فلم يَبق ضوءُ النجمِ والشمسُ طالعُ
قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي: كنتُ أعرف أربعة عشر علماً، فلما تعلمتُ علم الحقيقة شرطت ذلك كله. هـ. يعني: وقع الاستغناء عنها، فالكنز الذي ظفر به من العلم بالله، على نعت العيان، فلم يبقَ للروح التفات إلى شيء قط. " ماذا فقد مَن وجدك "؟ وليس المراد أنها ذهبت معرفتها عنه، بل لو رجع إليها لوجدها تشحرت واتسعت أمدادها، ولكن ظفر بعلم يُعد الاشتغال بغيره بطالة، كما قال الغزالي لابن العربي
وإن عكس القضية كان من الفُجّار، ومَن صبر على الفقر، ورضي بالقسمة، وفرح بالفاقة، فهو من الأولياء، ومَن عكس القضية كان من البُعداء، فَمن نظر الإنسان القصير ظنُ النقمة نعمة، والنعمة نقمة، فبسطُ الدنيا على العبد قبل معرفته بربه هوانٌ، وقبضها عنه أحسان، وفي الحكم: " ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك ". ثم زجر الحقُّ تعالى عن التمتُّع الشهواني البهيمي، وعن محبة المال الفاني، وهو من فعل أهل الانهماك في الغفلة.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿كلا إِذا دُكَّتِ الأرْضُ﴾ أي: زُلزلت ﴿دَكاً دَكاً﴾ أي: دكاً بعد دكّ، أي: كرّر عليها الدكّ حتى صارت هباءً منبثاً، أو قاعاً صفصفاً، ﴿وجاء ربُّك﴾ أي: تجلّى لفصل قضائه بين عباده، وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه، ﴿والمَلكُ صفاً صفاً﴾ أي: نزل ملائكة كل سماء فيصفون صفاً بعد صف محدقين بالإنس والجن، ﴿وجيء يومئذٍ بجهنمَ﴾، قيل: بُرِّزت لأهلها، كقوله: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١) ﴾ [الشعراء: ٩١] وقيل: يجاء بها حقيقة، وفي الحديث: " يؤتى بجهنم يومئذٍ، لها سبعونَ ألفَ زمامٍ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجرُّونها، حتى تنصب عن يسار العرش، لها لغيط وزفير " رواه مسلم.
﴿يومئذ يتذكّرُ الإِنسانُ﴾ أي: يتّعظ، وهو بدل من (إذا دُكت) والعامل فيه: (يتذكّر) أي: إذا دُكت الأرض ووقع الفصل بين العباد يتذكر الإنسان ما فرّط فيه بمشاهدة جزائه، ﴿وأنَّى له الذِّكْرَى﴾ أي: ومن أين له الذكرى؟ لفوات وقتها في الدنيا، ﴿يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي﴾ هذه، وهي حياة الآخرة، أي: يا ليتني قدّمتُ الأعمالَ الصالحة في الدنيا الفانية لحياتي الباقية.
﴿فيومئذٍ لا يُعَذِّبُ عذابَه أحدٌ﴾ أي: لا يتولّى عذاب الله أحد؛ لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم، ﴿ولا يُوثِقُ وثاقه أحدٌ﴾، قال صاحب الكشف: لا يُعدِّب بالسلاسل والأغلال أحدٌ كعذاب الله، ولا يوثِق أحدٌ أحداً كوثاق الله. وقرأ الأخوان بفتح الذال والثاء، بالبناء للمفعول، قيل: وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف، وهو الكافر. وقيل: هو أُبيّ بن خلف،


الصفحة التالية
Icon