يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي: يسلّمون عليك؛ فإنّ الروح إذا سُئلت في القبر عُرج بها إلى أرواح أهلها، فيتلقونه ويُسلّمون عليه، ويهنُّونه بالخروج من سجن الدنيا، أو: سلامة لك يا محمد من أصحاب اليمين، فلا ترى فيهم إلاَّ السلامة.
﴿وأمّا إِن كان من المكذّبين الضالين﴾ هم الصنف الثالث من الأزواج الثلالثة، وهم الذين قبل لهم: ﴿ثم إنكم إيها الضالون المكذِّبون﴾... الخ، ﴿فَنُزُلٌ من حَميم﴾ أي: فله نُزل من حميم يشربه، ﴿وتَصْلِيهُ جحيمِ﴾ إدخال في النار، ومقاساة ألوانِ عذابها. وهذا يدل على أنّ الكافر بمجرد موته يدخل النار. وقيل: معنى ذلك: ما يجده في القبر من سموم النار ودخانها. ويحتمل: أن الآية لا تختص بعالم البرزخ، بل تعم البرزخ وما بعده.
وقد تكلم الناسُ عن الأرواح في عالم البرزخ، وحاصل ما ظهر لنا من الأحاديث والأخبار: أنّ أرواح الصدّيقين، وهم المقربون، تتشكل على صورة أجسامهم، وتذهب حيث شاءت في الجنان وغيرها. وأرواح الشهداء تدخل في حواصل طيور خُضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، لمّا كانت أرواحهم في الدنيا مسجونة في هيكل ذاتهم، سُجنت في حواصل الطيور، بخلاف العارفين لّمَا سرحت أفكارهم في الملكوت والجبروت؛ أُطلقت أرواحهم بعد الموت، وأرواح الصالحين الأبرار وعامة المؤمنين، ممن لم ينفذ فيه الوعيد؛ متفرقة في البرزخ، فمنهم في ظل شجرة المنتهَى، ومنهم في السموات، على قدر سعيهم في الدنيا. وكل صنف يُجمع مع صنفه جماعةً، فالعلماء مع صنفهم، والقراء كذلك، والصالحون كذلك، والأولياء كذلك، والمنهمكون في الدنيا إذا سلموا من العذاب تكون أرواحهم كالنائم المستغرق، لا يشعر بمرور الأيام، حتى يستيقظ بنفخة البعث، وأما مَن نفذ فيهم الوعيد، فهم يُعذبون بأنواع من العذاب، وتذكَّر حديث البخاري في الرؤيا التي رآها ﷺ في شأن الزناة وأكل الربا، وغيرهم. وفي ابن حجر: أن أرواح المؤمنين في عليين، وأرواح الكافر في سجين، ولكل روح بجسدها اتصال معنوي، لا يُشبه الاتصال في الحيلة الدنيا، بل أشبه شيء به حال النائم، وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالاً قال: وبهذا يُجمع بين ما ورد أن مقرها في عليين أو سجين، وبين ما نقل ابن عبد البر عن الجمهور: أنها عند أَفْنية قبورها. قال: ومع ذلك فهي مأذون لها في التصرُّف، وتأوي إلى محلها من عليين أو سجين، وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر، فالاتصال المذكور متصل، وكذا إذا تفرقت الأجزاء. هـ.
وفي الأصل الرابع والخمسين من نوادر الأصول: إذا قَدِمَ المؤمنُ على ربه لقاه رَوحاً وريحاناً وبشرى على ألسنة الرسل، وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾ [فصلت: ٣٠]، ثم يأمر له في قبره بكسوة من فِراش ودِثار ورياحين، وهو قوله: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ {الروم: ٤٤]، ويُنور له
﴿ووالدٍ وما وَلَد﴾ أي: وآدم وجميع ولده، أو نوح وولده، أو إبراهيم وولده، أو إسماعيل ونبينا صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه حَرَمُ إبراهيم ومنشأ إسماعيل، ومسكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو محمد ﷺ وولده، أو جنس كل والد ومولود. ﴿لقد خلقنا الإِنسانَ﴾ أي: جنسه ﴿في كبدٍ﴾ ؛ في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها، يُكابد مشاق التعلُّم، ثم مشاق القيام بأمور الدين وأمور معاشه وهموم دنياه وآخرته، ثم يكابد نزع روحه، ثم سؤاله في قبره، ثم تعب حشره، ومقاساة شدائد حسابه، ثم مروره على الصراط، فلا راحة له إلاّ بعد دخول الجنة لتكون حلوة عنده، هذا في عموم الناس، وأمّا خواص العارفين فقد استراحوا حين وصلوا إلى معرفة الحق، فأسقطوا عنهم الأحمال؛ لتحققهم أنهم محمولون بالقدرة الأزلية، فلما أَسقطوا حِمْلَهم قام الله بأمرهم، لقوله: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٣]، يقال: كَبِدَ الرجل كَبَداً: إذا وجعت كبده من مرض أو تعب.
﴿
أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ﴾ أي: أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد، أو: أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن، قيل: هو أبو الأشدّين الجمحي، رجل من قريش كان شديد القوة، مغترًّا بقوته، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه، ويقول: مَن أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً، ولا تزال قدماه، وقيل: عَمْرو بن عبد ود، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ﴿يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً﴾ أي: كثيراً، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض، يريد كثرة ما أنفقه، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي، رياءً وفخراً. ﴿أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ﴾ ؟ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه، يعني: أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه.
ثم ذكر نِعمه عليه، فقال: ﴿ألم نجعل له عينين﴾ يُبصر بهما المرئيات، ﴿ولساناً﴾ يُعَبِّرُ به عما في ضميره، ﴿وشفتين﴾ يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها، ﴿وهديناه النجدين﴾ أي: طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار، فهو كقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ... ﴾ [الإنسان: ٣] الآية. وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد، بل معنى الإلهام، أو: الثديين، وأصل النجد: المكان المرتفع، ومنه سُميت نجد، لارتفاعها عما انخفض من الحجاز.
الإشارة: أقسم تعالى ببلد المعاني، التي هي أسرار الذات، ووالد، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات، لقد خلق الإنسانَ في كبد: في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله، أعني: روحانيًّا قدسيًّا، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع. قال الكواشي: عن بعضهم: الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه، واقفاً بحاله، فإنه في ظلمة وبلاء، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته، بفناء طبائعه عنه، صار في راحةٍ. هـ.
والحاصل: أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان، فإنه في روح وريحان، وجنات ورضوان. أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا. ألم نجعل له عينين، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله؟ فليرح نفسه من تعب التدبير، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه، وهديناه الطريقين؛ الشريعة والحقيقة، فإذا سلكهما وصلناه إلينا.
أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ} أي: أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد، أو: أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن، قيل: هو أبو الأشدّين الجمحي، رجل من قريش كان شديد القوة، مغترًّا بقوته، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه، ويقول: مَن أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً، ولا تزال قدماه، وقيل: عَمْرو بن عبد ود، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ﴿يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً﴾ أي: كثيراً، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض، يريد كثرة ما أنفقه، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي، رياءً وفخراً. ﴿أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ﴾ ؟ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه، يعني: أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه.
ثم ذكر نِعمه عليه، فقال: ﴿ألم نجعل له عينين﴾ يُبصر بهما المرئيات، ﴿ولساناً﴾ يُعَبِّرُ به عما في ضميره، ﴿وشفتين﴾ يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها، ﴿وهديناه النجدين﴾ أي: طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار، فهو كقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ... ﴾ [الإنسان: ٣] الآية. وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد، بل معنى الإلهام، أو: الثديين، وأصل النجد: المكان المرتفع، ومنه سُميت نجد، لارتفاعها عما انخفض من الحجاز.
الإشارة: أقسم تعالى ببلد المعاني، التي هي أسرار الذات، ووالد، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات، لقد خلق الإنسانَ في كبد: في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله، أعني: روحانيًّا قدسيًّا، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع. قال الكواشي: عن بعضهم: الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه، واقفاً بحاله، فإنه في ظلمة وبلاء، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته، بفناء طبائعه عنه، صار في راحةٍ. هـ.