والجمادات، بلسان الحال والمقال، فإنَّ كل فرد من أفراد الموجودات يدلّ بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم، الواجب الوجود، المتصف بالكمال، المنزَّه عن النقائص، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤] قيل: إنما استغنى عن إعادة الموصل في خصوص هذه السورة لتكرر ذكر الأرض هنا في أربعة مواضع. هـ. ﴿وهو العزيزُ﴾ المنتقِم ممن لم يُسبِّح له عناداً، ﴿الحكيمُ﴾ في مجازاة مَن سبَّح له انقياداً.
﴿وله مُلك السماواتِ والأرض﴾ أي: التصرُّف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات، مِن نعت الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات. قال الورتجبي: ذكر الله سبحانه ملكه على قدر أفهام الخليقة، وإلاّ فأين السموات والأرض من ملكه، والسموات والأرضون في ميادين مملكته أقل من خردلة! لمّا علم عجز خلقه عن إدراك ما فوق رؤيتهم، ذكر أنَّ مُلك السموات والأرض مِلكُ قدرته الواسعة، التي إذا أراد الله إيجاد شيء يقول كن فيكون بقدرته، وليس لقدرته نهاية، ولا لإرادته منتهى. هـ. ﴿يُحيي ويميت﴾ استئناف مُبيِّن لبعض أحكام المُلك، أي: هو يُحيي الموتى ويُميت الأحياء، ﴿وَهُوَ على كُلِّ شيءٍ﴾ من الأشياء، التي من جملتها الإحياء والإماتة ﴿قدير﴾ لا يعجزه شيء.
﴿
وهو الأولُ﴾ القديم قبل كل شيء، ﴿والآخرُ﴾ الذي يَبقى بعد فناء كل شيء، ﴿والظاهرُ﴾ الذي ظهر بكل شيء، ﴿والباطنُ﴾ الذي اختفى بعد ظهوره في كل شيء، وقد جاء في الحديث: " اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء " قال الطيبي: فالمعنيّ بالظاهر على التفسير النبوي: الغالب الذي يَغلب ولا يُغلب، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء؛ إذ ليس فوقه أحدٌ يمنعه، وبالباطن ألاّ ملجأ ولا منجا دونه، يُنجي ملتجئاً له. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. ﴿وهو بكل شيءٍ عليم﴾ لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفيِّ. ﴿هو الذي خَلَقَ السماوات والأرضَ في ستة أيام﴾ من أيام الدنيا، ولو أراد أن يخلقها في طرفة عين لفعل، ولكن جعل الست أصلاً ليكون عليها المدار، وتعليماً للتأني، ﴿ثم استوى﴾ أي: استولى ﴿على العرش﴾ حتى صار العرش وما احتوى عليه غيباً في عظمة أسرار ذاته، ﴿يعلم ما يَلِجُ في الأرض﴾ ما يدخل فيها، من البذر، والقطر، والكنوز، والأمطار، ﴿وما يعرجُ فيها﴾ من الملائكة والأموات والأعمال، ﴿وهو معكم أينما كنتم﴾ بالعلم والقدرة والإحاطة الذاتية، وما ادعاه ابنُ عطية من الإجماع أنه بالعلم، فإن كان مراده من أهل الظاهر فمسلّم، وأمّا أهل الباطن فمجمِعون على خلافه، انظر الإشارة.
عمراً وأبو بكر خالداً، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام العامل.
﴿والسماءِ وما بناها﴾ أي: ومَن بناها، وإيثار " ما " على " مَنْ " لإرادة الوصفيّة تفخيماً، كأنه قيل: والقادر العظيم الذي بناها، وجعلُها مصدرية مخلّ بالنظم الكريم، وكذا في قوله: ﴿والأرضِ وما طحاها﴾ أي: بسطها من كل جانب، كـ " دحاها ".
﴿
ونفسٍ وما سوَّاها﴾ أي: والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها وأتقن صورتها، مستعدة لكمالاتها، والتنكير للتفخيم، على أنَّ المراد نفس آدم عليه السلام أو للتكثير، وهو الأنسب للجواب، أي: ومَن سوّى كلَّ نفس، ﴿فألْهَمَها فجورَها وتقواها﴾ أي: ألهمها طاعتها ومعصيتها، وأفهمها قبح المعصية وحسن الطاعة، أو عَرَّفها طرق الفجور والتقوى، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى " أو " كقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٣] أي: ألهم مَن أراد شقاوتها فجورها فسعت إليه، وألهم مَن أراد سعادتها تقواها، فسعت إليه. ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاها﴾ أي: فاز بكل مطلوب، ونجا مِن كل مكروه مَن طَهَّرَها وأصلحها وجعلها زكيةً بالإيمان والطاعة، ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دسَّاها﴾ ؛ أغواها، قال عكرمة: " أفلحت نفس زكّاها اللهُ، وخابت نفس أغواها الله " ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد. والتدسية: النفس والإخفاء، أي: خسر مَن نقصها وأخفاها بالفجور، وأصل دسّى: دسّس، كتقضى وتقضض، فأبدل من الحرف الثالث ياء، قال في الكافية:
وثَالِثَ الأمثال أبدلنه ياء
نحو تظنا خالد تظنينا
وجواب القسم محذوف، والتقدير: ليهلكنّ الله مَن كفر من قريش ويُدمدم عليهم كما دمدم على ثمود، وقيل: " قد أفلح " وليس بشيء، وقيل: " كذبت ثمود " على إضمار " قد " والأول أحسن، والله تعالى أعلم.
الإشارة: والشمس شمس العرفان، وابتداء ضُحاها في أول الفناء، والقمر قمر الإيمان، إذا تلاها بالرجوع للأثر بالتنزُّل لعالم الحكمة كمالاً وتكميلاً، والنهار نهار التمكين إذا جلاّها، أي: ظلمة حس الكائنات، وقلعها مِن أصلها بشهود المكوِّن، والليل؛ ليل القطيعة، إذا يغشاها بقهرية الحق اختباراً، هل يضطرب ويفزع فيُردّ عليه، أو يتسلّى فيُسلب، أو نهار البسط إذا جلاّها، أي: ظلمة القبض، وليل القبض إذا يغشاها، أي: شمس نهار البسط، أقسم تعالى بتعاقبهما والسماء سماء الأرواح، وما بناها؛ رفعها، والأرض أرض الأشباح، وما طحاها، أي: بسطها للعبودية، ونفسٍ وما سوّاها؛ ألقى صورتها وهيّأها للقُرب والبُعد، فألهمها فجورها وتقواها بما أعطاها من نور العقل، قال الورتجبي: سوّاها بتسوية الصِفة، ورقمها بنور الآزلية، ثم بيَّن أنه تعالى عرّفها طرق لطيفات الذات، وقهرية الصفات بنفسه بلا واسطة بقوله: ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ عرّفها أولاَ طريق القهر حتى عرفت المهلكات، ثم عرَّفها طريق اللطف حتى عرفت