من عند أنفسهم، استحلته أنفُسِهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم، حتى نبذوا كتابَ الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: اعْرِضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم، وإلاَّ فاقتلوهم. ثم اتفقوا أن يرسلوه إلى عالمٍ من علمائهم، [وقالوا] : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإلاَّ قتلتموه، فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة، وجعلها في قرن، وعلقها في عنقه، ثم لبس عليه ثيابه، وأتاهم، فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فأومئ إلى صدره، وقال: آمنتُ بهذا - يعني المعلَّق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة. هـ.
قال تعالى: ﴿وكثيرُ منهم فاسقون﴾ خارجون عن دينهم، رافضون لما في الكتابين، أي: وقليل منهم مؤمنون، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. وقال ابن عطية: الإشارة بقوله: ﴿أوتوا الكتاب﴾ إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام، ولذلك قال: ﴿من قبل﴾، وإنما شبّه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي، وقوله: ﴿فطال عليهم الأمدُ﴾ قيل: أمد الحياة، وقيل: أمد انتظار القيامة. هـ. وقال مقاتل: ﴿الأمد﴾ هنا: الأمل، أي: لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم. هـ. قيل: إن الصحابة ملُّوا ملالة، فقالوا: حدِّثنا، فنزل: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: ٣]، وبعد مدة قالوا: لو ذَكَّرتَنا، فنزلت هذه السورة.
وهذه الآية ﴿اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتها﴾ قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يُحييها كما يُحيي الغيثُ الأرض، وفيه إرشاد إلى أنَّ طريق زوال القسوة ليس إلاَّ الالتجاء إلى الله، ونفى الحول والقوة؛ لأنه تعالى القادر وحده على ذلك، كما أنه وحده يُحيي الأرض، ﴿قد بينا لكم الآيات﴾ التي من جملتها هذه الآية، ﴿لعلكم تعقلون﴾ كي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: خشوع القلب لذكر الله هو ذهوله وغيبته عند سطوع أنوار المذكور، فيغيب الذاكر في المذكور، وهو الفناء، والخشوع لسماع ما نزل من الحق: أن يسمعه من الحق، لا من الخلق، وهو أقصى درجات المقربين. ثم نهى تعالى الخواص أن يتشبّهوا بأهل العلوم الرسمية اللسانية؛ لأنه طال بهم الأمل، وتنافسوا في الرئاسة، وتهالكوا في الحظوظ العاجلة، حتى قست قلوبهم، وخرجوا عن الإرادة بالكلية، قال القشيري: وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة؛ فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان، وموجِبُ القسوة: انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ، ويقال: موجب القسوة أوله خطرة، فإنْ لم تتدارَكْ صارت فكرة، وإن لم تتدارَكْ صارت عزيمة، فإن لم تتدارَكْ صارت مخالفة، فإن لم تتلافَ صارت قسوةً، وبعد ذلك طبع ودين. هـ. وحينئذ لا ينفع الوعظ والتذكير، كما قال:
أحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافلُ اليتيم في الجنة كهاتين إذا اتقى الله " وأشار بالسبابة والوُسطى، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي؛ مَن أبكى هذا اليتيم الذي غيبتُ أباه في التراب؟ فتقول الملائكة: ربنا أنت أعلم، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي فإني أُشهدكم أنَّ لمن أسكته وأرضاه أنْ أُرضيه يوم القيامة "، فكان عمر إذا رأى يتيماً مسح رأسه وأعطاه شيئاً. وقال أنس: " مَن ضمّ يتيماً، فكان في نفقته، وكفاه مؤنته، كان لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار يوم القيامة، ومَن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ".
﴿وأمَّا السائِلَ فلا تنهرْ﴾ أي: لا تزجره ولا تعبس في وجهه، ولا تغلظ له القول، بل ردّه ردًّا جميلاً، قال إبراهيم بن أدهم: نِعم القوم السُؤَّال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: أتبعثون إلى أهليكم بشيء. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يمنعنّ أحدُكم السائلَ وإن في يديْه قُلْبَين، من ذهب " أي: سوارين. وقال أيضاً: " أَعْطِ السائِلَ ولو على فرسه " وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا رددت السائل ثلاثاُ فلم يرجع عليك أن تَزْبُرَه " وقال الحسن: المراد بالسائل هنا: السائل عن العلم.
﴿وأمَّا بنعمةِ ربك فحدِّث﴾ بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها، يرد ما أفاضه الله تعالى عليه من فنون النِعَم، التي من جملتها المعدودة والموعودة، والنبوة التي آتاه الله تأتي على جميع النِعم، ويَدخل في النِعم تعلُّم العلم والقرآن، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " التحدُّث بالنِعَم شكر " ولذلك كان بعض السلف يقول: لقد أعطاني الله كذا، ولقد صلَّيتُ البارحة كذا، وهذا إنما يجوز إذا ذكره على وجه الشكر، أو ليُقتدى به، فأمّا على وجه الفخر والرياء فلا يجوز. هـ.