الكفار الجاحدون لنعمة الله تعالى فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة، فهاج، واصفرّ وصار حطاماً.
وهذا المثل هو لمَن اشتغل بالدنيا، والجري عليها، وأمّا ما كان منها في طاعة الله، أو في الضرورات التي تُقيم الأولاد، وتُعين الطاعات، فلا يدخل في هذا المثل، وهذا مثال للإنسان ينشأ شابّاً قويّاً، حَسن المنظر والهيئة، ثم يأخذ في النقص والهرم، ثم يموت، ويضمحل أمره، وتصير الأموال لغيره. قال القشيري: الدنيا حقيرة، وأحقرُ منها قَدْراً: طالبُها، وأقلُّ منها خَطَراً: المُزاحِم فيها، فما هي إلاّ جيفة، وطلاب الجيفةِ ليس لهم خطر، وأخسُّهم مَن يبخل بها. وهذه الدنيا المذمومة هي ما شَغَل العبد عن الآخرة، فكل ما شغله عن الآخرة فهي الدنيا. هـ.
﴿
وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ﴾ لمَن أعرض عن الله، ﴿ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ﴾ لمَن أقبل على الله، وزهد فيما سواه. والحاصل: أنّ الدنيا ليست إلاَّ محقراتٍ من الأمور، وهي اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر، وأمّا الآخرة؛ فما هي إلا أمورٌ عِظام، وهي العذاب الشديد، والمغفرة، والرضوان من الله الحميد. والكاف في " كَمَثَلِ " في محل رفع، خبر بعد خبر، ﴿وما الحياةُ الدنيا إِلا متاعُ الغُرور﴾ لمَن ركن إليها، واعتمد عليها، ومتاع الغرور: هو الذي يظهر ما حسن منه، ويبطن ما قبح، يفعله مَن يغر الناس ويغشهم، وكذلك الدنيا تُظهر لطلابها حلاوةً ووَلُوعاً، وتزداد عليهم شيئاً فشيئاً، فينهمكون في حلاوة شهواتها وبهجتها، ويغفلون عن الاستعداد، والعمر يفنى من يدهم في البطالة، فهي تغرهم وتخدعهم حتى تسوقهم إلى الموت مفلسين. قال ذو النون: يا معشر المريدين؛ لا تطلبوا الدنيا، وإن طلبتموها فلا تحبوها، فإنّ الزاد منها، والمَقيل في غيرها.
ولمَّا حقَّر الدنيا، وصغّ أمرها، وعظّم أمر الآخرة، حَثَّ عبادَه على المسارعة إلى نيل ما وَعَد من ذلك، وهي المغفرة والرضوان، فقال: ﴿سابِقوا﴾ بالأعمال الصالحة ﴿إِلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أو: سارِعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار، ﴿وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض﴾ أي: كعرض سبع سموات، وسبع أرضين، إذا مدت إحداها حَذْو الأخرى، وذَكَر العرض دون الطول؛ لأنّ كل ما له عرض وطول فعَرضه أقلّ من طوله، فإذا وصف عَرضه بالبسط عُرف أن طوله أبسط، وهذا تقريب لأفهام العرب، وإلاَّ فالجنة أعظم من ذلك مراراً، كيف لا والمؤمن الواحد يُعطي قدر الدنيا عشر مرات! ﴿أُعِدَّتْ﴾ تلك الجنة ﴿للذين آمنوا بالله ورسله﴾ وهو دليل أنها مخلوقة، ﴿ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء﴾ وهم المؤمنون، وفيه دليل أنه " لا يدخل الجنة أحدٌ بعمله " كما في
﴿فإِنَّ مع العسكر يُسراً﴾ كأنه قال: خوّلناك ما خوّلناك فلا تيأس من فضل الله، ﴿إِنَّ مع العسر﴾ الذي أنتم فيه ﴿يُسراً﴾، وجيء بلفظ " مع " لغاية مقارنة اليسر للعسر؛ زيادةً في التسلية وتقوية لقلبه صلى الله عليه وسلم، وكذلك تكريره، وإنما قال ﷺ عند نزولها: " لن يغلب عسر يسرين " لأنَّ العسر أعيد مُعرّفاً فكان واحداً، لأنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى، واليُسر أعيد نكرة، والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، فصار المعنى: إنَّ مع العُسر يسريْن، وبعضهم يكتبه بياءين، ولا وجه له.
﴿فإِذا فرغتَ﴾ من التبليغ أو الغزو ﴿فانصبْ﴾ ؛ فاجتهد في العبادة، وأَتعب نفسك شكراً لما أولاك من النِعم السابقة، ووعدك من الآلاء اللاحقة، أو: فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الحق، وقيل: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء، أو: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب في الشفاعة، أي: في سبب استحقاق الشفاعة، ﴿وإِلى ربك فارغبْ﴾ في السؤال، ولا تسأل غيره، فإنه القادر على إسعافك لا غيره. وقُرىء: " فرغِّب " أي: الناس إلى ما عنده.
الإشارة: ما قيل للرسول ﷺ من تعديد النعم عليه واستقراره بها، يُقال لخليفته العارف الداعي إلى الله، حرفاً بحرف، فيقال له: ألم نُوسع صدرك لمعرفتي، ووضعنا عنك أوزارك حين توجهتَ إلينا، أو: وضعنا عنك أثقال السير، فحملناك إلينا، فكنت محمولاً لا حاملاً، ورفعنا لك ذكرك حين هيأناك للدعوة، بعد أن أخملنا ذكرك حين كنت في السير لئلا يشغلك الناسُ عنا، فإنَّ مع عسر المجاهدة يُسر المشاهدة، فإذا فرغت من الدعوة والتذكير، فأَتْعِب نفسك في العكوف في الحضرة، أو: فإذا فرغت مِن كمالك فانصب في تكميل غيرك، وارغب في هداية الخلق. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.