وعظمت في نفسه، اختال وافتخر بها، لا محالة. وفي تخصيص التنزيل الذم بالفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى.
ثم أبدل من " كل مختال " تفسيراً له فقال: ﴿الذين يبخلون ويأمرون الناسَ بالبخل﴾ أي: لا يُحب الذين يفرحون الفرحَ المُطغي إذا رُزقوا مالاً أو حظّاً من الدنيا، فلأجل فرحهم به عزّ في نفوسهم، فبخلوا به، وأَمروا غيرهم بإمساكه، ويحضُّونهم على البخل والادخار، ﴿ومَن يتولَ﴾ يُعرض عن الإنفاق، أو عن أوامر الله تعالى ونواهيه، ولم ينتهِ عما نهى عنه من الأسى على الفائت، والفرح بالآتي، ﴿فإِنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ﴾ أي: غني عنه وعن أنفاقه، محمودٌ في ذاته، لا يضره إعراضُ مَن أعرض عن شكره، بالتقرُّب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأنَّ الأمر بالإنفاق إنما هلو لمصحلة المنفق فقط. وقرأ المدنيان وابن عامر بغير " هو " الذي يفيد الحصر، اكتفاء عنها بتعريف الجُزأين، مع تأكيد " إنّ "، وقرأ الباقون بزيادتها؛ للتنصيص على الحصر والتأكيد، وهو ضمير فصل عن البصريين، أي: الفرق؛ لأنه يفرق بين الخبر والصفة، وعماد عند الكوفيين، ورابطة عند المنطقيين.
الإشارة: ما أصاب من مصيبة في أرض البشرية، من غلبة الطبع، والميل إلى الحظوظ النفسانية، ولا في أنفسكم؛ ولا في باطن أنفسكم، مما يُصيب القلبَ من الأمراض، كالعجب والرياء والكبر والحسد، وغيرها، وما يُصيب الروح من الوقوف مع المقامات، أو الكرامات، أو الكشوفات، إلاَّ في كتاب سابق، وهو العلم القديم، والقضاء المحتوم، فمَن وافقته رياح القضاء نهض رغماً عن أنفه، ومَن انتكبته نكس على عقبيه، أو وقف عن سيره، فالرجوع إلى الله واجب في الحالتين، عبودية وأدباً، فعلنا ذلك لكيلا تأسَوا على ما فاتكم. فمَن تحقّق بالعبودية لا يفوته شيء، ولا تفرحوا بما آتاكم مما شأنه يزول. قال القشيري: هذه صفة المتحررين من رِقِّ النفس، وقيمة الرجال إنما تتبين بتغيُّرهم، فمَن لم يتغير بما يَرِدُ عليه مما لا يريده من جفاءٍ أو مكروهٍ أو محبةٍ فهو كامل، ومَن لم يتغير بالمضار، ولا يَسُرُّه الوجد، كما لا يُحْزِنْه العَدَم، فهو سَيِّد وقته. هـ. قلت: وهذه كانت سيرة الصحابة رضي الله عنهم كما قال كعب بن زهير في وصفهم:
لاَ يَفرحونَ إِذا نَالَتْ رِماحُهُمُ
قَوْماً وَلَيْسُوا مجازيعاً إذا نِيلوا
ثم قال: ويُقال: إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد، والتغيراتُ من علامات بقاء النفْس بأيّ وجهٍ كان. هـ. وقال الورتجبي عن الواسطي: العارف مستهلك في كُنه المعروف، فإذا حصل بمقام المعرفة لا يبقى عليه قصد فرح ولا أسى، قال الله تعالى: ﴿لِكَيلا تأسوا... ﴾ الآية. هـ. قلت: وإليه أشار في الحِكَم بقوله: " ما تجده
ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغَ أرذلَ العمر، لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق، وأنَّ مَن قدر على خلق الإنسان على هذا النمط العجيب لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك بالجزاء؟ ! أو: بالرسول صلى الله عليه وسلم: أي: فمَن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل القاطع؟
﴿أليس اللهُ بأحكم الحاكمين﴾ وعيد للكفار، وأنّه يحكم عليهم بما هو أهله، وهو من الحُكم والقضاء، أي: أليس الله بأفضل الفاصلين فيفصل بينك وبين مكذِّبِيك. وقيل: مِن الحِكمة، بمعنى الإتقان، أي: أليس مَن خلق الإنسان وصوّره في أحسن تقويم بأحكم الحكماء. وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال: " بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين ". الإشارة: حاصل ما ذكره القشيري: أنه تعالى أقسم بأربعة أشياء، لغاية شرفها؛ الأولى شجرة القلب التينية المثمِرة للعلوم اللدنية الخالصة عن نوى الشكوك العقلية والشبهة الوهمية، والثانية: شجرة الروح المستضيئة من نور السر لكمال استعدادها، وإليه الإشاره بقوله: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِياءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور: ٣٥] الخ. والثالثة: شجرة السر، الذي هو طور التجلِّي محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة. والرابعة: البلد الأمين، الذي هو حال التلبيس والخفاء، بعد التمكين، وهو الرجوع للأسباب، قياماً بآداب الحكمة ورسم العبودية، وهو مقام الكملة. والمقسَم عليه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم﴾ قال القشيري: أي: في المظهر الأكمل والأتم، والمحل الأعم، حامل الأمانة الإلهية، وصاحب الصورة الرحمانية، روحانيته أُم الروحانيات، وطبيعته أجمع الأمزجة وأعدلها، ونشأته أوسع النشآت وأشملها. هـ. قلت: وإليه أشار الششتري بقوله:
وفيك يطوى ما انتشر من الأواني
وقول الشاعر:
يا تَائهاً في مهمهٍ عَنْ سِرِّه
انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوجودَ بأَسْره
أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً
يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بأسره
وقال في لطائف المنن، حاكياً عن شيخة أبي العباس المرسي: قرأتُ ليلة ﴿والتين والزيتون﴾ إلى أن انتهيت إلى قوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين﴾ ففكرتُ في معنى الآية، فكشف لي عن اللوح المحفوظ، فإذا فيه مكتوب: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم روحاً وعقلاً، ثم رددنا أسفل سافلين نفساً وهوى. هـ. فقوله تعالى: ﴿إلاّ الذين آمنوا..﴾ الخ؛ هم أهل الروح والعقل، الباقون في حسن التقويم، وغيرهم أهل النفس والهوى، والله تعالى أعلم. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.