بالسيف، الذي هو حجة الله على مَن جحد وعَنَد، ونزع من صفقة الجماعة اليد، وهو الحديد، الذي وصف بالبأس الشديد. هـ.
﴿ولقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم﴾ خُصّا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام ﴿وجعلنا في ذريتهما﴾ أولادهما ﴿النبوةَ﴾ الوحي ﴿والكتابَ﴾ جنس الكتاب. وعن ابن عباس: " الخطّ بالقلم ". يقال: كتب كتاباً وكتابة. ﴿فمنهم﴾ من الذرية، أو: مِن المرسَل إليهم، المدلول عليه من الإرسال، ﴿مُهتدٍ﴾ إلى الحق، ﴿وكثيرٌ منهم فاسقون﴾ خارجون عن الطريق المستقيم، والعدول عن سبيل المقابلة للمبالغة في الذم، والإيذان بكثرة الضلاّل والفسّاق.
﴿ثم قَفِّينا على آثارهم﴾ أي: نوح وإبراهيم، ومَن مضى من الأنبياء، أو: مَن عاصروهم من الرسل، ﴿برسلنا وقَفِّينا بعيسى ابن مريم﴾ أي: أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم. والتقفية: من القفا، كأنّ كل واحد جاء في قفا صاحبه من ورائه، ﴿وآتيناه﴾ أي: عيسى ﴿الإِنجيلَ﴾ وفيه لغتان كسر الهمزة وفتحه، وهو عجمي لا يلزم فيه أبنية العرب، ﴿وجعلنا في قلوب الذين ابتَعوه﴾ وهم النصارى ﴿رأفةً﴾ مودةً وليناً، ﴿ورحمةً﴾ تعطُّفاً على إخوانهم، وهذا ظاهر في النصارى دون اليهود، فأتباع عيسى أولاً كانوا الحواريين، وطائفة من اليهود، وكفرت به الطائفة الباقية، فالنصارى أشياع الحواريين، فما زالت الرحمة فيهم، وأما اليهود فقلوبهم أقسى من الحجر. ﴿ورهبانيةً ابتدعوها﴾ من باب الاشتغال، أي: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم. أو: معطوفة على ما قبلها، أي: وجعلنا في قلوبهم رهبانيةً مبتدَعةً مِن عندهم، أي: وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهابنية واستحداثها، وهي: المبالغة في الرهبة بالعبادة، والانقطاع عن الناس، وهي منسوبة إلى الرَهْبان، وهو الخائف، فعلان من: رَهَبَ، كخشيان، من خشي. وقرئ بضم الراء، نسبة إلى الرُّهْبان جمع راهب، كراكب وركبان. وسبب ابتداعهم إياها: أنَّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السلام، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقُتل المؤمنون حتى لم يبقَ منهم إلاَّ القليل، فخافوا أن يفتونهم في دينهم، فاختاروا الرهبانية في قُلَل الجبال، فارين بدينهم، مختلِّصين أنفسهم. انظر الثعلبي فقد نقله حديثاً.
﴿
ما كتبناها عليهم﴾
أي: لم نفرضها عليهم، ولكن نذروها على أنفسهم. ما فعلوا ذلك ﴿إِلاَّ ابتغاءَ رِضْوانِ الله﴾ عليهم، قيل: الاستثناء منقطع، أي: ما كتبناها عليهم لكن فعلوها ابتغاء رضوان الله، وقيل: متصل من أعم الأحوال، أي: ما كتبناها عليهم في حال من الأحوال إلاّ ابتغاء الرضوان، ﴿فما رَعَوْها حقَّ رعايتها﴾ كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله، لا يحلّ نكثه، وقيل: في حق مَن أدرك البعثة فلم يؤمن بالنبي ﷺ أي: فما رَعَوا تلك الرهبانية حقها، حيث لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قوله تعالى: ﴿فآتينا الذين آمنوا منهم﴾ إيماناً صحيحاً، وهو الإيمان بالنبي ﷺ ﴿أجرَهم﴾ ما
أي: ليطغى لرؤية نفسه مستغنياً، على أنَّ " استغنى " مفعول لرأى، لأنه بمعنى عَلِم، ولذلك شاع كون فاعله ومفعوله ضميريْ واحد كما في " ظننتني وعَلِمتني " وإن جوّزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضاً، وجعل من ذلك قول عائشة رضي الله عنها: " رأيتني مع رسول الله ﷺ وما لنا طعام إلا الأسودان، الماء والتمر "، والمشهور أنه خاص بأفعال القلوب. وحاصل الآية: أن سبب طغيان الإنسان هو استغناؤه بالمال، وسبب تواضعه هو فقره.
ثم هدّد الإنسان وحذّره من عاقبة الطغيان، على طريق الالتفات، فقال: ﴿إِنَّ إِلى ربك الرُّجعى﴾ أي: الرجوع، فيجازيك على طغيانك. ﴿أرأيت الذي ينهَى عبداً إِذا صلَّى﴾ أي: أرأيت أبا جهل ينهى محمداً ﷺ عن الصلاة، وهو تشنيع بحاله، وتعجيب منها، وإيذان بأنه من البشاعة والغرابة بحيث يراها كل مَن يأتي منه الرؤية. رُوي أنَّ أبا جهل كان في ملأ من قريش، فقال: لئن رأيت محمداً لأطأنّ عنقه، فرأه ﷺ في الصلاة، فجاءه، ثم نكص على عقبيه، فقالوا: مالك؟ فقال: حال بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة، فنزلت، فقال صلى الله عليه وسلم: " لو دنا من لاختطفته الملائكة ". وتنكير العبد تفخيم لشأنه صلى الله عليه وسلم، والرؤية هنا بصرية، وأمّا في قوله: ﴿أرأيت إن كان على الهدى أو أّمَرَ بالتقوى﴾ وفي قوله: ﴿أرأيتَ إِن كَذَّب وتولَّى﴾ فعلمية، أي: أخبرني فإنَّ الرؤية لمَّا كانت سبباً للإخبار عن المرائي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها. والخطاب لكل مَن يصلح للخطاب.
قال في الكشاف: قوله تعالى: (الذي ينهى) هو المفعول الأول لقوله: (أرأيت) الأول، والجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني، وكررت (أرأيت) بعد ذلك للتأكيد، فلا تحتاج إلى مفعول. وقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَم بأنَّ الله يرى﴾ هو جواب قوله: ﴿إن كذَّب وتولى﴾، وجواب قوله: ﴿إن كان على الهدى﴾ محذوف، يدل عليه جواب قوله: ﴿إن كذَّب وتولى﴾ فهو في المعنى جواب للشرطين معاً. والضمير في قوله: ﴿إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى﴾ للناهي، وهو أبو جهل، وكذا في قوله: ﴿إن كذَّب وتولَّى﴾، والتقدير على هذا: أخبرني عن الذي ينهى عبداً إذا صلّى إن كان هذا الناهي على الهدى أو إن كَذّب وتولّى، أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى جميع أحواله، فمقصود الآية: تهديد له وزجر، وإعلام بأنّ الله يراه. وخالفه ابن عطية في الضمائر، فقال: إنَّ الضمير في قوله: ﴿إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى﴾ للعبد الذي صلَّى، وأنّ الضمير في قوله: ﴿إن كذَّب وتولى﴾ للناهي، وخالفه في جعل " أرأيت " الثانية مكررة للتأكيد، فقال: " أرأيت " في المواضع الثلاثة توقيف، وأنّ جوابها في المواضع الثلاثة: قوله: {أَلَمْ يَعْلَم


الصفحة التالية
Icon