إلى نصف النهار، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى الليل، فاستوفيتم أجر الفريقين، فقيل: ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأعظم أجراً؟ فقال: هي ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه مَن أشاء ". قيل: لمّا نزل قوله: ﴿أولئك يُؤتون أجرَهم مرتين بما صبروا﴾ افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي ﷺ فنزل. ﴿يا أيها الذين آمنوا... ﴾ الخ. ولمَّا نزلت هذه الآية الكريمة في هذا الوعد الكريم للمؤمنين حسدتهم اليهود، فأنزل الله: ﴿لئلا يعلم أهل الكتاب ألاَّ يقدرون على شيء... ﴾ الخ، أي: إنما خصصت المسلمين بذلك ليعلم أهل الكتاب إنه، أي: الأمر والشأن لا يملكون فضل الله، ولا يدخل تحت قدرتهم، فـ " إنْ " مخففة، واسمها: ضمير الشأن، و (لا) مزيدة، أي: ليعلم أهل الكتاب أنه لا يقدرون ﴿على شيءٍ من فضل الله﴾ ولا يملكونه، حتى يخصوا به مَن شاؤوا، ﴿و﴾ ليعلموا أيضاً ﴿أنَّ الفضلَ بيد الله﴾ في ملكه وتصرفه، ﴿يُؤتيه من يشاء﴾ من عباده ﴿واللهُ ذو الفضل العظيم﴾ لا نهاية لفضله. وعلى أنَّ الخطاب لأهل الكتاب يكون قوله: ﴿لئلا يعلم أهل الكتاب﴾ أي: مَن لم يؤمن منهم، فيكون راجعاً لمضمون الجملة الطلبية، المتضمنة لمعنى الشرط، أي: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بموسى وعيسى ﴿اتقوا الله وآمنوا برسوله﴾ فإن فعلتم ذلك ﴿يُؤتكم كفلين من رحمته... ﴾ الخ، وإنما جَعلتُ هذا لمَن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا به أنهم لا يملكون من فضل الله شيئاً، وأنَّ الفضل بيد الله... الخ.
الإشارة: تنسحب هذه الآية من طريق الإشارة على مَن كانت في أسلافه خصوصية ولاية، أو صلاح، أو شرف علم أو رئاسة مَّا، ثم ظهرت التربية الحقيقية في غير أسلافه، فإن حطّ رأسه وصَدّق بالخصوصية لغيره أعطي أجره مرتين، وعظم قدره في مقام الولاية، وإنما كانت تنتقل دولة الولاية؛ ليعلم أهلُ الخصوصية المتقدمة أنّ الفضل بيد الله، يُؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. والله الموفق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلم.
في شأنها: ﴿قد سمع الله... ﴾ ويقال: صارت قصتها فرجةً ورحمةً للمؤمنين إلى يوم القيامة، في قضية الظهار، ليعلم العالمون أنه لا يخسر على الله أحد. هـ.
ولمّا نزلت السورة بإثر الشكوى، قالت عائشة رضي الله عنها: " ما أسمع الله " تعجُّباً من سرعة نزولها.
﴿وتشتكي إلى اللهِ﴾ أي: تتضرع إليه، وتُظهر ما بها من الكرب، ﴿واللهُ يسمع تحاورَكما﴾ مراجعتكما الكلام، من: حاور إذا رجع. وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع، حسب استمرار التحاور وتجدُّده، وفي نظمها في سلك الخطاب تشريفٌ لها. والجملة استئناف، جار مجرى التعليل لِمَا قبله، فإنّ إلحافَها في المسألة، ومبالغتها في التضرُّع إلى الله تعالى، ومدافعته ﷺ إياها، منبئٌ عن التوقف وترقُّب الوحي، وعلمه تعالى بحالهما من دواعي الإجابة، أي: قد سمع قول المرأة وأجاب طلبتها؛ لأنه يسمع تحاوركما. وقيل: هو حال، وهو بعيد. ﴿إِنَّ الله سميع بصير﴾ تعليل لِما قبله، أي: مُبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات، ومِن قضيته: أن يسمع تحاوركما، ويرى ما يقارنه من الهيئات، التي مِن جملتها: رفع رأسها إلى السماء، وإثارة التضرُّع، وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة، وتعليل الحكم بوصف الألوهية، وتأكيد الجملتين.
الإشارة: قد سمع الله قولَ الروح، التي تُجادل في شأن القلب؛ لأنه مقرها ومسكنها، إن صلح صلحت، وإن فسد بحب الدنيا ومتابعة الهوى، فسدت، فهي تُجادل رسولَ الإلهام وتشتكي إلى الله من القلب الفاسد، والله يسمع تحاورهما وتضرعَها إن صدقت في طلب الحق، فيُجيب دعاءها، ويُقيض لها طبيباً يُعالجه، حتى ترجع لأصلها منه، إِن الله سميعٌ بصير.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وَالَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ﴾ وأصله: يتظهرون، فأدمغت التاء في الظاء، وقرأ عاصم: بضم الياء وتخفيف الظاء، مضارع ظاهر؛ لأنّ كل واحد يباعد
في إخفائها تعرض مَن يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالي في طلبها، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى، واسمه الأعظم، وساعة الجمعة، ورضاه في الطاعات، وغضبه في المعاصي، وولايته في خلقه ليحسن الظن بالجميع.
وتخصيص الألف بالذكر إمّا للتكثير، أو لما رُوي عنه ﷺ أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأُعطوا ليلةَ القدر هي خيرٌ من عمل ذل الغازي. وقيل: أن النبي ﷺ أري أعمار الأمم كافة، فاستقصر أعمار أمته، فخاف ألاّ يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم، فأعطاه الله ليلة القدر، جعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم. وقيل: كان مُلك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فجعل الله هذه الليلة لِمن قامها خيراً من ملكيهما.
ثم بيّن وجه فضلها، فقال: ﴿تَنزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها﴾، والروح إمّا جبريل عليه السلام، أو خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلاّ تلك الليلة، أو الرحمة. والمراد بتنزلهم: نزولهم إلى الأرض يُسلمون على الناس ويؤمِّنون على دعائهم، كما في الأثر. وقيل: إلى سماء الدنيا. وقوله: ﴿بإِذنِ ربهم﴾ يتعلق بـ " تنزلُ "، أو بمحذوف هو حال من فاعله، أي: ملتبسين بأمر ربهم، أو: ينزلون بإذنه، ﴿من كل أمرٍ﴾ أي: من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى قابل، رُوي أنَّ الله تعالى يُعْلِم الملائكة بكل ما يكون في ذلك العام كله، وقيل: يَبرز ذلك مِن علم الغيب ليلة النصف من شعبان، ويُعْطَى الملائكةً ليلة القدر، فلما كان أهم نزولهم هذا الأمر جعل نزولهم لأجله، فلا ينافي كون نزولهم للتسليم على الناس والتأمين، كما قال تعالى: ﴿سلامٌ هيَ﴾ أي: ما هي إلاَّ سلام على المؤمنين، جعلها نفس السلام لكثرة ما يُسلِّمون على الناس، فقد رُوي أنهم يُسلِّمومن على كل قائم وقاعد وقارىء ومُصَلِّ، أو: ما هي إلاِّ سلامة، أي: لا يُقَدِّر الله تعالى فيها إلاّ السلامة والخير، وأمّا في غيرها فيقضي سلامةً وبلاء، وقال ابن عباس: قوله: (هي) إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين؛ لأنّ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة.
ثم ذكر غايتها، فقال: ﴿حتى مطلَعِ الفجر﴾ أي: تنتهي إلى طلوع الفجر، أو: تُسلِّم الملائكة إلى مطلع الفجر، أو: تنزل الملائكة فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر. و " مَطْلَع " بالفتح: اسم زمان، وبالكسر مصدر، أو اسم زمان على غير قياس؛ لأنّ ما يضم مضارعه أو يفتح يتحد فيه الزمان والمكان والمصدر، يعني " مَفْعَل " في الجميع.
الإشارة: أهل القلوب من العارفين، الأوقاتُ كلها عندهم ليلة القدر، والأماكن عندهم كلها عرفات، والأيام كلها جمعات، لأنّ المقصود من تعظيم الزمان والمكان هو باعتبار ما يقع فيه من التقريب والكشف والعيان، والأوقات والأماكن عند العارفين كلها سواء في هذا المعنى، كما قال شاعرهم: