للمشاهدة أنَّ الله يعلم ما استقر في السماوات وما في الأرض من الموجودات، ﴿ما يكونُ من نجْوَى ثلاثةٍ﴾ : استئناف مُقَرِّر لِما قبله مِن سعة علمه تعالى، ومُبَيّن لكيفيته، و " كان " تامة، أي: ما يقع من تناجي ثلاثة نفر في مساررتهم ﴿إِلاَّ هُو﴾ أي: الله تعالى ﴿رابعُهم﴾ أي: جاعلهم أربعة من حيث إنه تعالى يُشاركهم في الاطلاع عليها، ﴿ولا خمسةٍ﴾ أي: ولا نجوى خمسة ﴿إِلاّ هو سادسُهم ولا أدنَى﴾ ولا أقل ﴿من ذلك ولا أكثرَ إِلاّ هو معهم﴾ يعلم ما يتناجون به، فلا يخفى عليهم ما هم فيه. وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة، فإنّ الآية نزلت في المنافقين، وكانوا يتناجون مغايظةً للمؤمنين على هذين العددين، وقيل: المعنى: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عددهم ولا أكثر، إلا والله معهم، يسمع ما يقولون، ولأنّ أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب، وأول عَدَدهم الاثنان فصاعداً، إلى خمسة، إلى ستة، إلى ما اقتضته الحال، فذكر عزَ وجل الثلاثة والخمسة، وقال: ﴿ولا أدنى من ذلك﴾ فدلّ على الاثنين والأربعة، وقال: ﴿ولا أكثرَ﴾ فدلّ على ما فوق هذا العدد. قاله النسفي.
﴿ثم يُنبِّئُهم﴾ يُخبرهم ﴿بما عَمِلوا﴾ تفضيحاً وإظهاراً لِما يوجب عذابهم. ﴿إِنّ الله بكل شيء عليم﴾ لأنَّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل سواء، فلا يخلو منه زمان ولا مكان.
الإشارة: في الحديث: " مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب " فمَن حادّ أولياءَ الله فقد حادّ الله ورسولَه، فيُكبت كما كُبِتَ مَن قبله ممن اشتغل بإذايتهم، وقد أنزلنا آيات واضحات على ثبوت الولاية في كل زمان، قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البَقَرَة: ١٠٦]، وللكافرين الجاحدين لخصوصيتهم عذاب مهين، وهو البُعد والطرد وغم الحجاب وسوء الحساب. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا، أي: أهل الإنكار، فيُنبئهم بما عملوا من الانتقاد والإذاية، أحصاه اللهُ ونسوه، لأنهم يعتقدون أنهم في ذلك على صواب؛ لجهلهم المُرَكَّب، فإذا تناجوا في شأنهم بما يسؤوهم فيقال في حقهم: ﴿ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلاّ هو رابعهم... ﴾ الآية. قال القشيري: ﴿إنّ الذين يُحادون الله ورسولَه﴾، يعني: يُحادون مظاهر الله، وهم الأولياء المحققون، العارفون القائمون بأسرار الحقائق، ومظاهر رسول الله، وهم العلماء العاملون، القائمون بأحكام الشرائع، كُبتوا: أُفحموا بالحُجج وإظهار البراهين من الكرامات الظاهرة، وخرق العادات الباهرة، أو نشر العلوم الشريعة، ونشر الأحكام الفرعية، وقد أنزلنا بصحة ولايتهم، وقوة وراثتهم، علامات ظاهرة، ودلالات زاهرة، من المشاهدات والمعاينات، أو الحجج القاطعة
﴿يومئذٍ تُحَدِّثُ أخبارَها﴾ يوم إذا زلزلت الأرض تُحَدِّث الناس أخبارها بما وقع على ظهرها، قيل: يُنطقها اللهُ وتُحدِّث بما وقع عليها خيرٍ وشر، رُوي عنه صلى الله عليه وسلم: " أنها تشهد على كل أحدٍ بما عمل على ظهرها " ﴿بأنّ ربك أوْحى لها﴾ أي: بسبب أنَّ ربك أوحى لها بأن تُحَدِّث، أي: أَمَرَها بذلك. والحديث يستعمل بالباء وبدونها، يقال: حدثت كذا وبكذا، و " أوحى " يتعدى باللام وبـ " إلى ".
﴿يومئذٍ﴾ أي: يوم إذ يقع ما ذكر ﴿يَصْدُر الناسُ﴾ من قبورهم إلى موقف الحساب ﴿أشتاتاً﴾ متفرقين طبقات، منهم بِيض الوجوه آمنين، ومنهم سُود الوجوه فزعين، كما في قوله تعالى: ﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾ [النبأ: ١٨] وقيل: يصدرون غن الموقف أشتاتاً، ذات اليمين إلى الجنة، وذات الشمال إلى النار، ﴿لِيُرَوا أعمالَهم﴾ أي: جزاء أعمالهم، خيراً أو شراً.
﴿
فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيرا يَرَهُ﴾
، والذرة: النملة الصغيرة. وقيل: ما يُرى في شعاع الشمس من البهاء. و " خيراً ": تمييز، ﴿ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شرا يَرَهُ﴾ قيل: هذا في الكافر، والأُولى في المؤمنين. وقال ابن عباس رضي الله عنه: ليس مؤمن ولا كافر، عَمِلَ خيراً ولا شرًّا في الدنيا إلاّ يراه في الآخرة، فأمّا المؤمن فيرى حسناته وسيئاته، فيغفر اللهُ سيئاته ويُثيبه بحسناته، وأمّا الكافر فيَرُدُّ اللهُ حسناته ويُعذبه بسيئاته. وقال محمد بن كعب: الكافر يرى ثوابه في الدنيا، في أهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، والمؤمن يرى عقوبته في الدنيا، في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. وفي الحديث: " إذا تاب العبدُ عن ذنبه أَنْسَى الله الحفظةَ ذنوبه، وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض، حتى يلقى الله وليس عليه شاهد بذنب ". قال ابن جُزي: هو على عمومه في الكافر، وأمّا المؤمنون فلا يُجْزَون بذنوبهم إلاَّ بستة شروط؛ أن تكون ذنوبهم كِبار، وأن يموتوا قبل التوبة منها، وألاَّ يكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها، وألاّ يُشفع فيهم، وألاّ يكونوا ممن استحق المغفرة بعملٍ، كأهل بدر، وإلاّ يعفو الله عنهم، فإنّ المؤمن العاصي في مشيئة الله، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له. هـ.
الإشارة: إذا زُلزلت أرضُ النفوس زلزالها اللائق بها، وحُركت بالواردات والأحوال، وتحققت الغيبة عنها بالكلية، أشرقت شمس العرفان، فغطّت وجودَ الأكوان، كما قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه مُنشِداً:


الصفحة التالية
Icon