وصف، لأنه يسلكه دوماً ثم يصفه، والعالم إنما يصفه بالنعت، وأيضاً: العالِم يدلك على العمل، والعارف يُخرجك عن شهود العمل، العالِم يحملك حِمل التكليف، والعارف يروحك بشهود التعريف، العالِم يَدُلك على علم الرسوم، والعارف يُعرّفك بذات الحي القيوم، العالِمَ يَدُلك على الأسباب، والعارف يدلك على مُسبِّب الأسباب، العالِم يَدُلك على شهود الوسائط، والعارف يَدُلك على محرك الوسائط، العالِم يُحذّرك من الوقوف مع الأغيار، والعارف يُحذّرك من الوقوف مع الأنوار، ويزج بك في حضرة الأسرار، العالِم يُحذّرك من الشرك الجلي، والعارف يُخلِّصك من الشرك الخفي، إلى غير من الفروقات بين العارف والعالم. ومن اصطلاحات الصوفية، أنَّ العالِم بالأحكام يسمى عالماً، والعالِم بالذات عياناً وكشفاً يسمى عارفاً، كما في القوت. وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذا ناجيتم الرسولَ﴾ أي: إذا أردتم مناجاته في بعض شؤونكم المهمة، ﴿فقدِّموا بين يدي نجواكم﴾ أي: قبل نجواكم ﴿صدقة﴾ وهي استعارة ممن له يدان، كقول عمر رضي الله عنه: " من أفضل ما أوتيت العرب الشِعر، يقدّمه الرجل أما حاجته، فيستمطر به الكريم، ويستنزل به اللئيم " يريد: قبل حاجته. وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتفاع الفقراء، والزجر عن الإفراط في مناجاته وسؤاله عليه الصلاة والسلام، والتمييز بين المخلِص والمنافق، وبين مُحب الآخرة ومُحب الدنيا، وهل الأمر للندب، أو للوجوب لكنه نسخ بقوله: ﴿أأشفقتم..﴾ الخ؟ وعن عليّ رضي الله عنه: " إنَّ في كتاب الله آية ما عمل بها أحدٌ غيري، كان لي دينار فصرّفته فكنت إذا ناجيته ﷺ تصدّقت به ". وقال أيضاً: " أنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين "، قال رضي الله عنه: فَهِم رسولُ الله ﷺ أنّ هذه العبادة قد شقّت على الناس، فقال: " يا عليّ كم ترى حدّ هذه الصدقة؟ أتراه ديناراً؟ " قلت: لا، قال: " فنصف دينار "؟ قلت: لا، قال: " فكم "؟ قلت: حبة من شعير، قال: " إنك لزهيد " فأنزل الله الرخصة ". قال الفخر: قوله ﷺ لعليّ: " إنك لزهيد " معناه: إنك قليل المال،
السيئة على صورة قبيحة، فتُوضع في الميزان، فمَن ترجحت موازين حسناته ﴿فهو في عيشةٍ راضيةٍ﴾ أي: ذات رضاً، أو مرضية، ﴿ومَن خَفَّتْ موازينُه﴾ باتباعه الباطل، فلم يكون له حسنات يُعتد بها، أوترجحت سيئاته على حسناته، ﴿فأُمُّهُ هاويةٌ﴾، هي من أسماء النار، سُميت بها لغاية عمقها، وبُعد مداها، رُوي أنَّ أهل النار يهووا فيها سبعين خريفاً. وعبَّر عن المأوى بالأم لأنَّ أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه، وعن قتادة وغيره: فأم رأسه هاوية، لأنه يُطرح فيها منكوساً. والأول هو الموافق لقوله: ﴿وما أدراك مَا هِيَهْ﴾ فإنه تقرير لها بعد إبهامها، وللإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتفخيم والتهويل، وهي ضمير الهاوية، والهاء للسكت، ثبت وصلاً ووقفاً، لثبوتها في المُصحف، فينبغي الوقف ليوافق ثبوتها، ثم فسَّرها فقال: ﴿نارٌ حامية﴾ بلغت النهاية في الحرارة، قيل: وصفها بحامية تنبيهاً على أنَّ نار الدنيا بالنسبة إليها ليست بحامية؛ فإنَّ نار الدنيا جزءٌ من سبعين جزءاً منها، كما في الحديث.
الإشارة: القارعة هي سطوات تجلِّي الذات عند الاستشراف على مقام الفناء، لأنها تقرع القلوب بالحيرة والدهش في نور الكبرياء، ثم قال: ﴿يوم يكون الناس كالفراش المبثوث﴾ أو كالهباء في الهواء، إن فتشته لم تجده شيئاً ووجد الله عنده، يعني: إنَّ الخلق يصغر من جهة حسهم في نظر العارف، فلم يبعد في قلبه منهم هيبة ولا خوف. وتكون الجبال، جبال العقل، كالعهن المنفوش، أي: لا تثبت عند سطوع نور التجلِّي؛ لأنّ نور العقل ضعيف كالقمر، عند طلوع الشمس، فأمّا مَن ثقُلت موازينه بأن كان حقاً محضاَ؛ إذ لا يثقل في الميزان إلاَّ الحق، والحق لا يُصادم باطلاً إلاَّ دمغه، فهو في عيشةٍ راضيةٍ، لكونه دخل جنة المعارف، وهي الحياة الطيبة، وأمّا مَن خفّت موازينه باتباع الهوى فأُمُّه هاوية، نار القطيعة ينكس فيها ويُضم إليها، يحترق فيها بالشكوك والأوهام والخواطر، وحر التدبير والاختيار. ورُوي في بعض الأثر: إنما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينُهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله في الدنيا، وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه إلاَّ الحق أن يَثقل، وإنما خفَّتْ موازينُ مَن خفت موازينُهم باتباعهم الباطلِ وخفته في الدنيا، وحُق لميزان لا يُوضع فيه إلاَّ الباطل أن يخف. هـ. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


الصفحة التالية
Icon