القلوب، أشد تأثيراً من غيرهم، فإنَّ الكلامَ إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان حدّه الآذان، وفي الحِكَم: " تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيث ما صار التنوير وصل التعبير ". فأهل النور تسري أنوارُهم في الجالسين قبل أن يتكلموا، وربما انتفع الناسُ بصمتهم، كما ينتفعون بكلامهم، وأمّا أهل الظُلمة ـ وهو مَن في قلبه حُب الدنيا ـ فكلامهم قليل الجدوى، تسبق ظلمةُ قلوبهم إلى قلوب السامعين، فلا ينتفع إلاّ القليل.
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين عن الجهاد قول موسى لبنى إسرائيل، حين ندبهم إلى قتل الجبابرة، بقوله: ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ [المائدة: ٢١] الآية، فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عِصيان، حيث قالوا: ﴿يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ... ﴾ [المائدة: ٢٢] الآية، إلى أن قالوا: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ... ﴾ [المائدة: ٢٤] الآية. وآذوه عليه السلام كل الإذاية فقال: ﴿يا قوم لِمَ تُؤذونني وقد تعلمون أني رسولُ الله إِليكم﴾، فالجملة: حال، والحال أنكم تعلمون عِلماً قطعياً، مستمراً، بمشاهدة ما ترون من المعجزات الباهرة، إَني رسولُ الله إليكم، لأُرشدكم إلى خير الدنيا والأخرة، ومِن قضية عِلْمكم أن تُبالغوا في تعظيمي، وتُسارعوا إلى طاعتي، ﴿فلما زاغوا﴾ أي: أصرُّوا على الزيغ عن الحق الذي جاءهم به، واستمروا عليه ﴿أزاغ اللهُ قلوبَهم﴾ ؛ صرفها عن قبول الحق، والميل إلى الصواب، لصرف اختيارهم نحو الغيّ والإضلال، ﴿واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين﴾ أي: لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق، المصرِّين على الغواية، هدايةً موصّلَة إلى الطاعة وحسن الأدب، والمراد بهم المذكورون خاصة، والإظهار في موضع الإضمار لذمِّهم بالفسق وتعليل عدم الهداية، أو جنس الفاسقين، وهم داخلون في حكمهم دخولاً أوليًّا، وأَيًّا ما كان فوصفهم بالفسق نظر إلى ما في قوله تعالى: ﴿فافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة: ٢٥]، هذا الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم،


الصفحة التالية
Icon