يدخلون جماعة بعد جماعة، تدخل القبيلة بأسرها، والقوم بأسرهم، بعدما كانوا يدخلون واحداً واحداً، وذلك أنَّ العرب كانت تقول: إذا ظفر محمدٌ بالحرم ـ وقد كان آجرهم الله من أصحاب الفيل ـ فليس لكم به يدان، فلما فُتحت مكة جاؤوا للإسلام أفواجاً بلا قتال، فقد أسلم بعد فتح مكة بَشَرٌ كثير، فكان معه في غزوة تبوك سبعون ألفاً. وقال أبو محمد بن عبد البر: لم يمت رسولُ الله ﷺ وفي العرب كافر، وقد قيل: إنَّ عدد المسلمين عند موته: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً. هـ.
فإذا رأيتَ ما ذكر من النصر والفتح ﴿فَسَبِّح بحمد ربك﴾ أي: قل سبحان الله، حامداً له، أو: فصلّ له ﴿واستغفره﴾ تواضعاً وهضماً للنفس، أو: دُمْ على الاستغفار، ﴿إِنه كان﴾ ولم يزل ﴿تواباً﴾ ؛ كثير القبول للتوبة. روت عائشةُ رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: لَمّا فتح مكة، وأسلمت العرب، جعل يُكثر أن يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك، وأستغفرك وأتوب إليك، يتأوّل القرآن " يعني في هذه السورة. وقال لها مرة: " ما أراه إلاَّ حضور أجلي "، وتأوَّله العباس وعمر رضي الله عنهما بذلك بمحضره ﷺ فصدّقهما، ونزع هذا المنزع ابن عباس وغيره.
الإشارة: إذا جاءتك أيها المريد نصر الله لك، بأن قوّاك على خرق عوائد نفسك، وأظفرك بها (والفتح) وهو دخول مقام الفناء، وإظهار أسرار الحقائق، ورأيت الناسَ يدخلون في طريق الله أفواجاً، فسبّح بحمد ربك، أي: نزِّه ربك عن رؤية الغيرية والأثنينية في ملكه، واستغفره من رؤية وجود نفسك. قال القشيري: ويقال النصر من الله بأن أفناه عن نفسه، وأبعد عنه أحكام البشرية، وصفّاه من الكدورات النفسانية، وأمّا الفتح فهو: أن رقَّاه إلى محل الدنو، واستخلصه بخصائص الزلفة، وألبسه لباس الجمع، وعرّفه من كمال المعرفة ما كان جميع الخلق متعطشاً إليه. هـ. وقال الورتجبي (فَسَبِّح بحمد ربك) أي: سبِّحه بحمده لا بك، أي: فسبِّحه بالحمد الذي حمد به نفسه، واستغفِره من حمدك وثنائك وجميع أعمالك وعرفانك، فإنّ الكل معلول؛ إذ وصف الحدثان لا يليق بجمال الرحمن، إنه كان قابل التوب من العجز عن إدراك كنه قدسه، والاعتراف بالجهل عن معرفة حقيقة وجوده. هـ. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.