القرآن ﴿ويُزكِّيهم﴾ ؛ يطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية، ﴿ويُعَلّمهم الكتابَ﴾ ؛ القرآن ﴿والحكمةَ﴾ ؛ السُنَّة، أو الفقه في الدين، أو إتقان العلم والعمل، ﴿وإِن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين﴾ ؛ كفر وجهالة. و " إن " مخففة، أي: وإن الشأن كانوا في ضلال فظيع، وهو بيان لشدة افتقارهم لمَن يرشدهم، وإزاحة لِمَا عسى أن يتوهم مِن تعلُّمه ﷺ مِن الغير؛ إذ كلهم كانوا مغروقين في الجهل والضلال، ليس فيهم مَن يعلم شيئاً.
﴿وآخرين منهم﴾ : عطف على " الأميين " أي: بعث في الأميين، الذين في عصره، وفي آخرين من الأميين ﴿لَمَّا يلحقوا بهم﴾ أي: لم يلحقوا بهم بعدُ، وسيلحقون، وهم الذين يأتون بعد الصحابة إلى يوم القيامة، وقيل: هم العجم، أي: وآخرين من جنسهم، وقيل: عطف على " يُعلّمهم " أي: يُعلّم أخرين منهم، وعلى كلِّ فدعوته ﷺ عامة. ﴿وهو العزيزُ الحكيم﴾ ؛ المبالغ في العزة والحكمة، ولذلك مكَّن رجلاً أميًّا من ذلك الأمر العظيم، واصطفاه من بين كافة البشر.
﴿
ذلك﴾ الذي امتاز به محمد ﷺ من بين سائر البشر ﴿فضلُ الله﴾ وإحسانه، أو: ذلك التوفيق حتى يؤمنوا من فضل الله، لا باستحقاق، أو الاعتناء بالبعث وعدم الإهمال، مع ما حصل منه من النتائج المذكورة، فضل من الله، وقطع الأسباب في الجملة في استحقاق الفضل؛ إذ علقه بالمشيئة في قوله: ﴿يؤتيه مَن يشاء﴾ تفضُّلاً وعطية، ﴿والله ذو الفضل العظيم﴾ الذي يُستحقر دونه نِعم الدنيا والآخرة. الإشارة: كل مَن لم يعرف الله معرفةَ العيان، فهو من الأميين، فكما مَنَّ الله تعالى على عباده ببعثه الرسول، بعد أن كانوا في ضلالٍ مبين، كذلك مَنَّ على أمته بعده، فبَعَثَ مشايخَ التربية يتلو عليهم آياته الدالة على شهوده وظهوره، ويزكيهم من الرذائل التي تحجبهم عن الله، ويُعلّمهم أسرارَ الكتاب، وأسرارَ الحكمة، وهي الشريعة، إذ لا يوقف على أسرارهما إلاّ بعد تطهير القلوب، وتزكية النفوس، وإن كانوا من قبل ملاقاة المشايخ لفي ضلال مبين، حائدين عن طريق الشهود، وبعث أيضاً في آخرين منهم من يُذكِّرهم ويُعرفهم بالله، وهكذا لا ينقطع الداعي إلى يوم القيامة، لكن لا يصل إليه إلاّ مَن أراد الله أن يوصله إليه، ولذلك قال: ﴿ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء... ﴾ الآية.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿مَثَلُ﴾ اليهود ﴿الذين حُمِّلُوا التوراةَ﴾ أي: كُلِّفوا علمها، والعمل بما فيها، ﴿ثم لم يحملوها﴾ ؛ لم يعملوا بما فيها، فكأنهم لم يحملوها، ﴿كَمَثَلِ الحمارِ يحمل أسفاراً﴾ جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، شَبّه اليهودَ بالحمار، فإنهم حملة التوراة وقُرّاؤها وحُفّاظ ما فيها، ثمّ لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بآياتها، وذلك: أنَّ فيها بعث رسولِ الله ﷺ والبشارة به، فلم يؤمنوا، فهم أشبه شيء بحمار حمل كُتباً كباراً من كتب العلم، فهو يشمي بها، ولا يدري منها إلاَّ ما يلحقه من الكدّ والتعب. وفي التلخيص: وَجْهُ الشَبَه: حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع تحمُّل التعب في استصحابه، وكل مَن عَلِمَ ولم يعمل بعلمه فهذا مثلُه. قال الطيبي: لمّا تمسكت اليهود بقوله: " في الأميين "؛ لأنه خاص بالعرب، أتبعه بضرب المثل لمَن تمسّك بهذه الشبهة، وترك الدلائل الواضحة المسطورة بعموم البعثة، وأنه كالحمار يحمل أسفاراً، ولا يدري ما حمل، ولا ما فيه. هـ. وجملة " يحمل " حال، والعامل فيها، معنى المثل، أو: صفة للحمار؛ إذ ليس المراد به معيناً، فهو كقوله:
ولَقَد أَمُرُّ علُى اللئيم يَسُبُّني...
﴿بئس مثلُ القومِ الذين كذَّبوا بآيات الله﴾ أي: بئس مثلاً مثل القومُ الذين كذّبوا، أو بئس مثل القوم المكذِّبين مثلهم، وهم اليهود الذين كذَّبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿واللهُ لا يهدي القوم الظالمين﴾ وقت اختيارهم الظلمَ، أو: لا يهدي مَن سبق في علمه أنه يكون ظالماً، أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد.
﴿
قل يا أيها الذين هادوا إِن زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس فتَمَنَّوا الموتَ إِن كنتم صادقين﴾، كانوا يقولون: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، أي: إن كان قولكم حقًا، وكنتم على ثقة، فتمنُّوا على الله أن يُميتمكم ويبعثكم سريعاً إلى دار كرامته، التي أعدّها لأوليائه، فإنّ الحبيب يُحب لقاء حبيبه، وينتقل من دار الأكدار، إلى دار السرور والهناء، قال تعالى: ﴿ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم﴾ من الكفر والمعاصي الموجبة للنار. والباء متعلقة بما يدل عليه النفي، أي: يأبون ذلك بسبب ما قدمت أيديهم،