قاله النسفي، فانظره، مع أنّ سورة براءة متأخرة عن هذه، وفيها: ﴿وَلآ تُصَلِ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم... ﴾ [التوبة: ٨٤] التي نزلت فيه.
قالت تعالى: ﴿سواءٌ علَيهم أّسْتغفَرتَ لَهم أَم لَم تستغفرْ لَهم﴾، أي: لا مساغ للنصح فيهم، ﴿لَن يَغفِرَ اللهُ لَهُم﴾ أي: ما داموا على النفاق. والمعنى: سواء عليهم الاستغفار وعدمه؛ لأنهم لا يلتفتون إليه، ولا يعتدون به؛ لكفرهم، أو لأنّ الله لا يغفر لهم أبداً، ﴿إِنَّ اللهَ لا يهدي القوم الفاسقين﴾ ؛ لإصرارهم على الفسق، ورسوخهم في الكفر والنفاق. والمراد: إما هم بأعيانهم، والإظهار في موضع الإضمار لبيان غلوهم في الفسق، أو: الجنس، وهم داخلون في زمرتهم دخولاً أولياً.
﴿هم الذين يقولون﴾ للأنصار: ﴿لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضوا﴾ ؛ يتفرقوا، وهذه المقالة كانت السبب في استدعائه إلى الاستغفار، كما تقدّم، فحقها التقديم قبل قوله: ﴿وإِذا قيل لهم تعالوا﴾ وإنما أُخرت ليتوجه العتاب إليه مرتين، كما تقدّم في سورة البقرة.
ثم قال تعالى، في الرد على الخبيث: ﴿ولله خزائنُ السموات والأرض﴾، فهو رد وإبطال لما زعموا من أنَّ عدم إنفاقهم يؤدي إلى انفضاض الفقراء من حوله ﷺ ببيان أنَّ خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة، يُعطي مَن يشاء، ويمنع مَن يشاء، فيرزق منها المهاجرين، وإن أمسك أهلُ المدينة عنهم، ﴿ولكنَّ المنافقين لا يفقهون﴾ ؛ ولكن عبد الله وأضرابه لايفقهون ذلك فيهتدون، بما يُزيِّن لهم الشيطان.
﴿يقولون لئن رجعنا﴾ من غزوة بني الصطلق ﴿إِلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها﴾ يعني: نفسه ـ لعنه الله ـ ﴿الأذلَّ﴾ يعني: جانب المؤمنين، وإسناد القول بذلك إلى المنافقين؛ لرضاهم به، فردّ تعالى عليهم ذلك بقوله: ﴿وللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: ولله الغلبة والعزّة، ولِمن أعزّه من رسوله والمؤمنين، لا لغيرهم، كما أنَّ المَذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين. وعن بعض الصالحات، وكانت في هيئة رثّة من الفقر: ألستُ على الإسلام، وهو العزّ الذي لا ذُلّ معه، والغنى الذي لا فقر معه؟ وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنه: أنَّ رجُلاً قال لهُ: إنَّ فيك تيهاً؟ قال: ليس بتيه، ولكنه عزّة، وتلا هذه الآية. هـ.
﴿ولكنَّ المنافقينَ لا يعلمون﴾ ذلك؛ لفرط جهلهم وغرورهم، فيهذون ما يهذون. رُوي أنَّ ولد عبد الله بن أُبيّ، واسمه عبد الله، وكان رجلاً صالحاً، لَمَّا سمع الآية جاء إلى أبيه، فقال له: أنت والله يا أبت الذليل، ورسول الله العزيز، ووقف على باب السكة التي يسلكها أبوه، وجرّد السيف، ومنعه الدخول، وقال: والله لا دخلتَ منزلك إلاَّ أن يأذن في ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله في أذل حال، فبلغ ذلك رسولَ الله ﷺ فبعث إليه: " أن خَلِّه يمضي إلى منزله، وجزاه خيراً " فقال: الآن فنعم. هـ.


الصفحة التالية
Icon