أي: لا تقف مع واحدٍ منهما، فأطلق عنان المعاني في كل ما ترى، ولا تشبه المعاني بشيء، إذ ليس مثلها ولا معها فإياك أن تنزّه المعاني عن شيء، فتقيّد عن الشهود فيه، وإياك أن تشببها بشيء؛ إذ ليس مثلها شيء في الوجود. والله تعالى أعلم. ولا يعلم هذا إلا أهل الذوق الكبير.
ثم قال تعالى: ﴿هو الذي أخرج﴾ الخواطر الردية، والخبائث اليهودية، من ديار القلوب، عند أول حشرها إلى الحضرة، ما ظننتم أن يخرجوا، لتمكنها من النفس، وتمرُّنها معها، وظنوا أنهم مانعتهم حصونُهم من الله، حيث تحصّنوا بتمكن العوائد ورسوخها في النفس، ومخالطة الأحباب والعشائر، والرئاسة والجاه والمال، فأتاهم الله من حيث لم يحتسِبوا، حيث قيَّض لها شيخاً عارفاً، وقذف في القلب خوفاً مُزْعِجاً، أو شوقاً مقلقاً، وقذف في قلوبهم الرعب، فخرجت تلك الخبائث قهراً، يُخربون بيوتهم، أي: بيوت ظواهرهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، أي: بإعانة المشايخ والإخوان، فطهَّروا بواطنهم من الخبائث، وخرّبوا ظواهرهم من زينة الحس، فحينئذ تعمّرت بواطنُهم بأسرار العلوم والمعارف، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وافعلوا مثل فعلهم، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء من القلوب؛ لعذّبهم في الدنيا بالحرص والجزع والطمع، ولهم في الآخرة عذاب نار القطيعة، بعد إسدال الحجاب في الدنيا، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله؛ إذ كل مخالفة إنما هي من النفس وجنودها في عالم الحكمة.
﴿ما قطعتم من لِّينَةٍ﴾، قال القشيري: هو نوع من النخل ما عَدا العجوة والبَرْنِيّ، أمر رسول الله ﷺ بقطعها من مال بني النضير، فقطع بعضها، فقالت اليهود: أي فائدة في هذا؟ فبقي المسلمون في الجواب، فأنزل الله هذه الآية. هـ. وأصلها: لونة، من الألوان، فقلبت ياء، وقيل: اللينة: النخلة الكريمة، كأنهم اشتقوها من اللين، أي: أيّ شيء قطعتم من لِينة ﴿أو تركتموها قائمةً على أصولها﴾ من غير أن تتعرضوا لها بشيء ﴿فبإذن الله﴾ ؛ فقطعها وتركها بإذن الله، ﴿وليُخزي الفاسقين﴾ أي: وليذل اليهود ويغيظهم أذِنَ في قطعها وقلعها وفي تركها، وأمر المؤمنين أن يحتكموا في أموالهم كيف شاؤوا. واستُدل به على جواز هدم ديار الكفرة، وقطع أشجارهم، وحرق زروعهم، إذا لم يُرج وكان فيه إنكاء للعدو. وتخصيص اللينة بالقطع ليكون غيظهم أشد.
الإشارة: قَطْعُ شجرة حب الدنيا من القلب واجب على المريد في بدايته، ولو أدّى إلى إفساد المال لإصلاح قلبه، ارتكاباً لأخف الضررين، ومنه: قضية الشبلي في إحراق


الصفحة التالية
Icon