أي: المطلقات ﴿أُولات حملٍ فأَنفِقوا عليهن حتى يضعنَ حَملَهن﴾ فيخرجن من العِدّة. قال ابن جزي: اتفق العلماء على وجوب النفقة في العِدّة للمطلقة، عملاً بالآية، سواء كان الطلاق رجعيًّا أو بائناً. واتفقوا أنَّ للمطلقة غير الحامل النفقة والسُكْنى في العِدّة إذا كان الطلاق رجعيًّا، فإن كان بائناً فاختلفوا في نفقتها حسبما ذكرناه، وأمّا المتوفَّى عنها إذا كانت حاملاً فلا نفقة لها عند مالك والجمهور، لأنهم رأوا أنَّ هذه الآية إنما هي في المطلقات. وقال قوم: لها النفقة في التركة. هـ.
﴿
فإنْ أرضعنَ لكم﴾
هؤلاء المطلقات أولادَكم ﴿فآتوهن أجورَهُنَّ﴾ أي: أجرة الرضاع، وهي النفقة وسائر المؤن المُفصل في كتب الفقه. ﴿وأْتَمِرُوا بينكم بمعروفٍ﴾، خطاب للرجال والنساء، أي: يأمر كلُّ واحد منكم صاحبَه بخيرٍ؛ من المسامحة والرفق والإحسان، ولا يكن من الأب مماكسة، ومن الأم معاسرة، أو: تشاوروا بينكم على التراضي في الأجرة، ومنه: ﴿إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ [القصص: ٢٠]. ﴿وإِن تعاسَرتمْ﴾ ؛ تضايقتم، فلم ترضَ الأمّ بما ترضع به الأجنبية، ﴿فستُرضِعُ له أخرى﴾ ؛ فستُوجد مرضعةٌ أخرى، غير متعاسرة، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة. والمعنى: إن تشططت الأمّ على الأب في أجرة الرضاع، وطلبت منه كثيراً، فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق إلاّ ألاَّ يَقبل الولدُ غيرها، فتُجبر على رضاعة بأجرة المثل.
﴿ليُنفق ذو سَعَةٍ من سَعته ومَن قُدِرَ عليه رزقُه فليُنفق مما آتاه اللهُ﴾ أي: لِينفق كُلٌّ واحد من المعسر والموسر بما يبلغه وسعه، يعني: ما أُمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات، ﴿ومن قَدِرَ﴾ أي: ضُيِّق ﴿عليه رزقُه فلينفقْ﴾ عليها ﴿مما آتاه اللهُ﴾ فيَفرض الحاكمُ عليه ما يطيقه، ﴿لا يُكلِّف اللهُ نفسا إِلاَّ ما آتاها﴾ ؛ أعطاها من الرزق، وفيه تطييب قلب المعسر، وترغيب له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك بالوعد، حيث قال: ﴿سيجعل اللهُ بعد عُسر يُسراً﴾ أي: بعد ضيق في المعيشة سعة فيها، فإنّ عادته تعالى أن يُعقب العسر باليسر، كما قال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ [الشرح: ٥]، وكرره مرتين، فلن يغلب عسر يسريْن.
الإشارة: أسكِنوا نفوسَكم من حيث سكنتم بها قبل التوجه، فينبغي للمريد أن يُسايس نفسه شيئاً فشيئاً، حتى يغيب عنها في شهود الحق، من غير تشديدٍ في إخراجها عن طبعها بالكلية، فإنها حينئذٍ تَملّ وتكِلّ، فقد قيل: مَن سار إلى الله بموافقة طبعه كان الوصول إليه أقرب إليه من طبعه، ومَن سار إلى الله بمخالفة طبعه كان الوصول إليه على قدر بُعده عن طبعه، وفيه مشقة وحرج. ولذا قال تعالى: ﴿ولا تُضاروهن لتُضيقوا عليهن﴾ لئلا تمل وترجع من حيث جاءت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لا يكن أحدكم كالمُنْبَت، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى "، نعم مخالفة طبعها في حب الظهور والجاه، أو حب الدنيا،


الصفحة التالية
Icon