يجعلون أموالهم دون أعراضهم، ويهون عليهم كل مستصعب في بلوغ
أغراضهم، فإذا هجاهم شاعر جدُّوا في معارضته، وإجابته، واستعانوا على
ذلك بمن يحسنه، ويظهر عليه في مقاولته، ومحاورته، فلا ريب إذن في
أنهم راموا ذلك فما أطاقوه، وحاولوه فما استطاعوه، وأنهم رأوا نَظْماً عجيباً خارجاً عن أساليب كلامهم، ورصفاً بديعاً مبايناً لقوانين بلاغتهم ونظامهم، فأيقنوا بالقصور عن معارضته، واستشعروا العجز عن مقابلته، وهذا هو الوجه في إعجاز القرآن، كما قال بعضهم: القرآن لا يدركه عقل، ولا يقصر عنه فهم.
وأما ما تضمنه القرآن العزيز من الإخبار عن المغيّب
فليس ذلك مما تحداهم به، ولكنه دليل على صدق الرسول - ﷺ - وأنه كلام علام الغيوب وكذلك أيضاً دلالة حال الرسول - ﷺ - في كونه أمياً لا معرفة له.
ولا يحسن أن يقرأ، ولا وقف على شيء من أخبار الأمم الساللَّه حتى إنه لا
يقول الشعر، ولا ينظر في الكتب، ثم إنه قد أتى بأخبار القرون الماضية.
والأمم الخالية، وبما كان من أول خلق الأرض، والسماء إلى انقضاء
الدنيا، وهم يعلمون ذلك من حاله، ولا يشكون فيه، فهذه الحال دليل
قاطع بصدقه - ﷺ -.
ولكن إعجاز القرآن من قِبَلِ أنه خارج في بديع نظمه.
وغرابة أساليبه عن معهود كلام البشر، مختص بنمط غريب لا يشبه شيئاً من
القول فيِ الرصف والترتيب، لا هو من قبيل الشعر، ولا من ضروب
الخطب والسجع يعلم من قائله أنه خارج عن المألوف مباين للمعروف.
فتناسب في البلاغة، متشابه في البراعة، بريء من التكلف، منزه عن
التصنع والتعسف. وكلام البشر، وإن كان من فصيح بليغ، يظهر فيه.
إذا طال، تفاوت، واختلاف، وإخلال.
والقرآن العزيز على ذوق واحد إن بشر، أو أنذر، أو وعظ وحذر، أو قصَّ وأخبر، أو نهى أو أمر.
وليس ذلك لرؤساء الكلام، وفحول النظام، فقد يجيد بعضهم المدح، ويقصر في ضده، وفي وصف الخيل، وسير الليل، دون وصف الحرب والجود والمطر والسيل.
والقرآن العزيز كله وإن أطَال في هذه المعاني التي