ثمَّ ذكرَ قسمًا ثالثًا، وهو وجودُ الحقيقةِ نفسِها، فذكر أنَّ من كانَ مُحْدِثًا
ولم يجدْ ماءً فلْيَتَيمَّم، وهذا يشملُ المسافرَ وغيرَه، ففي هذا دليلّ على أنَّ
التيممَ يجوز لمن لم يجدِ الماءَ، مسافرًا كان أو غيرَ مسافرٍ، واللَّهُ أعلمُ.
وقد ذكر سبحانَهُ حدثَين:
أحدهما: الحدثُ الأصغرُ، وهو المجيء من الغائطِ، وهو كناية عن قضاء
الحاجةِ والتَّخَلِي، ويلتحقُ به كلُّ ما كانَ في معناهُ، كخروج الريح أو
النجاساتِ من البدَنِ عندَ من يرى ذلكَ.
والثاني: ملامسةُ النساءِ، واختلفُوا: هل المرادُ بها الجماعُ خاصةً، فيكونُ
حينئذٍ قد أمَرَ بالتيمم من الحدثِ الأصغرِ والأكبرِ، وفي ذلكَ رد على من
خالفَ في التيمم للجنابةِ كما سيأتي ذكْرُهُ - إن شاءَ اللَّهُ تعالى - أو المرادُ
بالملامسةِ مقدِّماتُ الجِماع من القُبْلةِ والمباشرةِ لشهوة، أو مطلقُ التقاء
البَشْرَتين، وعلى هذين القولينِ فلم يذكر في الآيةِ غير التيمم من الحدث
الأصغر.
وقولُه تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً)، متعلِّق بمن أحدثَ، سواء كان
على سفر أو لم يكنْ، كما سبق تقريرُه، دون المريضِ، لأنَّ المريضَ لا يُشترط لتيممه فقْدُ الماءِ، هذا هو الذي عملَ به الأُمة سلفًا وخلفًا.
وحُكِيَ عن عطاءٍ والحسنِ: أنَّ فقْدَ الماء شرط للتيمم مع المرض - أيضًا -
فلا يُباحُ للمريض أن يتيممَ مع وجودِ الماءِ وإن خشي التلفَ.
وهذا بعيدُ الصحةِ عنهما، فإنه لو لم يَجُزِ التيممُ إلا لفقدِ الماء لكان ذِكْرُ
المرضِ لا فائدةَ له.