من فاتَهُ اللَّهُ، فلو حصلتْ له الجنَّةُ بحذافِيرِهَا، لكان مغبونًا، فكيفَ إذا لم
يحصلْ له إلا نزْر يسير حقيرٌ من دارٍ كلِّها لا تَعدِلُ جناحَ بعوضةٍ:
مَنْ فاتَهُ أنْ يَراكَ يَومًا... فكل أوقاتِهِ فواتُ
وحَيثُما كنتُ من بلادٍ... فَلِي إلى وجْهِكَ التِفَاتُ
ثم ذكرَ أوصافَ الذين يُحبُّهم ويحبُّونه، فقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى المؤْمِنِينَ)، يعني: أنهم يعامِلونَ المؤمنينَ بالذِّلَّة واللِّينِ، وخَفْضِ الجناح.
(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) يعني: أنهم يعامِلُونَ الكافرينِ بالعزَّة والشدَّةِ عليهم.
والإغلاظِ لهم، فلما أحبُّوا اللَّهَ، أحبُّوا أولياءَه الذين يُحبونَهُ، فعامَلُوهُم
بالمحبِّةِ، والرَّأفةِ، والرحمةِ، وأبغضُوا أعداءَه الذين يُعادونه، فعاملُوهُم بالشِّدَّةِ
والغلظةِ، كما قال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).
(يجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم).
فإنَّ من تمامِ المحبةِ مجاهدةَ أعداءِ المحبوبِ - وأيضًا - فالجهادُ في سبيلِ اللَّهِ
دعاءٌ للمعرضِينَ عن اللَّهِ إلى الرجوع إليه بالسِّيفِ والسنانِ، بعد دعائِهم إليه
بالحجَّةِ والبُرْهانِ، فالمحبُّ للَّهِ يحبُّ اجتلابِ الخلقِ كلِّهم إلى بابِهِ، فمنْ لم
يُجبِ الدعوةَ إليه باللينِ والرِّفقِ، احتاجَ إلى الدعوة بالشدَّةِ والعنفِ: "عجِبَ ربُّك من قوم يُقادون إلى الجنَّةِ بالسَّلاسلِ ".
(وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)، لا هَمَّ للمحبِّ غيرُ ما يُرضِي حبيبَهُ.
رضِيَ من رَضِيَ وسخطَ من سخِطَ، من خافَ الملامةَ في هوى من يُحبُ.
فليس بصادقٍ في المحبًّةِ.


الصفحة التالية
Icon