أما الأول: فلا ريبَ فيه فإنَّ صيغة "إنما" تقتضِي تأكد ثبوتِ المذكورِ
بالاتِّفاق؛ لأنَّ خصوصيةَ "إن" إفادةُ التأكيدِ وأمَّا "ما": فالجمهور على أنَّها
كافةٌ، ثُمَّ قالَ جمهورُ النحاةِ: هيَ الزائدةُ التي تدخلُ على إنَّ، وأنَّ، وليتَ، ولعلَّ، وكأن، فتكفها عن العملِ لأنَّ الأصلَ في الحروفِ العاملة أن تكونَ
محضةً فإذا اختصتْ بالاسم أو الفعلِ ولم يكنْ كالجزءِ منهُ عملت فيه، وإنَّ
وأخواتُها مختصةٌ بالاسم فتعملُ فيه فإذا دخلتْ عليها "ما" زالتْ اختصاصُها
فصارَتْ تدخلُ على الجملة الاسميةِ والفعليةِ فبَطلَ عملُها وإنَما عملتْ "ما"
النافيةُ على اللغةِ التي نَزَلَ بها القرآنُ وهي لغةُ أهل الحجازِ استحْسانًا
لمشَابَهتِها لـ "ليس " وذهبَ بعضُ الكوفيينَ، وابنُ درستويه إلى أنَّ "ما" مع
هذهِ الحروفِ اسمٌ مبهمٌ بمنزلةِ ضميرِ الشأنِ في التفخيم والإبهامِ وفي أنَّ
الجملةَ بعدَهُ مفسرةٌ له ومخبَرٌ بها عنْهُ، وذهبتْ طائفةٌ من الأصوليينَ وأهلِ
البيانِ إلى أن "ما" هذه نافيةٌ واستدلُّوا بذلكَ على إفادتِها الحصرَ.
وأنَّ "إن" أفادت الإثباتَ في المذكورِ، و"ما" النفيَ فيما عداهُ وهذا باطلٌ
باتفاقِ أهلِ المعرفةِ باللسانِ فإنَّ "إن" إنما تفيدُ توكيدَ الكلامِ إثباتًا كان أو نفيًا
لا يفيدُ الإثباتَ.
و"ما" زائدةٌ كافة لا نافيةٌ وهي الداخلةُ على سائر أخواتِ إنَّ: لكنَّ وكأنَ
وليتَ ولعلَّ، وليستْ في دخولها على هذه الحروفِ نافيةً بالاتفاقِ فكذلكَ
الداخلةُ على إنَّ وأنَّ، وقد نُسِبَ القولُ بأنها نافيةٌ إلى أبي علي الفارسي
لقولِهِ في كتابِ "الشيرازيات ": إنَّ العربَ عاملُوا "إنما" معاملةَ النفيِّ و"إلا"
في فصلِ الضميرِ لقولِهِ:
"وإنَّما يدافعُ عن أحسابِهِم أنا أوْ مِثْلِي ".


الصفحة التالية
Icon