"إذا أرادَ اللَّهُ أن يسترَ على عبدِهِ يومَ القيامة أراه ذنوبَهُ فيما بينه وبينه ثمَّ غفرَهَا له "
ولهذا كانَ أشهرُ القولينِ أنَّ هذا الحكمَ عامٌّ في حقِّ التائبِ وغيره، وقد ذكرَهُ
أبو سليمانَ الدمشقيُّ عن أكثرِ العلماءِ، واحتجُّوا بعمومِ هذه الأحاديثِ مع
قولِهِ تعالى: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كبِيرَة إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا).
وقد نُقِلَ ذلك صريحًا عن غيرِ واحدٍ من السلفِ كالحسنِ البصريِّ وبلالِ بنِ سعد - حكيم أهلِ الشامِ -
كما روى ابنُ أبي الدنيا، وابنُ المنادِي وغيرُهُما عن الحسنِ:
"أنه سُئل عن الرجلِ يذنبُ ثم يتوبُ هل يُمحى من صحيفتِهِ؟
قال: لا، دون أن يوقِفَهُ عليه ثم يسألُهُ عنه "
ثم في رواية ابنِ المنادِي وغير: "ثم بكى الحسنُ، وقال:
لو لم تبكِ الأحياءُ من ذلكَ المقامِ لكانَ يحقُّ لنا أن نبْكِي فنطيلَ البكاءَ".
وذكرَ ابنُ أبي الدنيا عنْ بعضِ السلفِ أنه قال:
"ما يمرُّ عليَّ أشدُ من الحياءِ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ ".
وفي الأثرِ المعروفِ الذي رواه أبو نُعيمٍ وغيرُهُ عن علقمةَ بنِ مرثدٍ:
"أنَّ الأسودَ بنَ يزيدَ لما احتُضِرَ بكى، فقيلَ له: ما هذا الجزعُ؟
قالَ: ما لي لا أجزعُ، ومن أحقُّ بذلكَ منَي.
واللَّهِ لو أُتيتُ بالمغفرةِ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لهمَّني الحياءُ منه
مما قدْ صنعتُه، إنَّ الرجلَ ليكونُ بينه وبين الرجلِ الذنبُ الصغيرُ
فيعفو عنه فلا يزالُ مستَحِيًا منه ".
ومن هذا قولُ الفضيلِ بنِ عياضٍ:
"بالموقفِ واسوءتاهُ منكَ وإنْ عفوتَ ".
المقصود هنا أن آلام الذنوبِ ومشاقَّها وشداتها التي تزيدُ على لذاتِها
أضعافًا مضاعفةً، لا يتخلفُ عن صاحِبها، لا مع توبة ولا عفوٍ، فكيفَ إذا
لم يُوجدْ واحدٌ منهما، ويتضحُ هذا بما نذكرُهُ في الوجهِ السابع.


الصفحة التالية
Icon