مِنَ الأذَى، ثم إن اللَّه تعالى ظفَّرهُ بهم، وأدخلهُ عليهم قهرًا، فملكَ البلدَ
عنوةً، وملكَ رقابَ أهلهِ، ثمَّ منَّ عليهِم وأطلقهم وعفا عنهم، فكانَ في
تسليطِ نبيِّه - ﷺ - على هذا البلدِ وتمليكهِ إياه ولأمَّتهِ منْ بعدِهِ ما دلَّ على صحَّةِ نبوَّتهِ، فإنَّ اللَّهَ حبسَ عنه من يُريدُه بالأذى وأهلكهُ، ثم سلَّطَ عليه رسولهُ وأمَّتهُ كما قال - ﷺ -:
"إنَّ اللَّه حبسَ عن مكَّةَ الفيلَ وسلَّطَ عليها رسولهُ والمؤمنينَ ".
فإنَّ الرسولَ - ﷺ - وأُمته إنَّما كان قصدُهم تعظيمَ البيتِ وتكريمهُ واحترامَهُ.
ولهذا أنكرَ النبيُّ - ﷺ - يومَ الفتح على منْ قال: اليومَ تُستحلُّ الكعبةُ، وقال: "اليومَ تُعظَّمُ الكعبةُ".
وقد كان أهلُ الجاهليةِ غيَّروا دينَ إبراهيمَ وإسماعيلَ بما
ابتدَعوه من الشِّركِ وتغييرِ بعضِ مناسكِ الحجِّ، فسلَّطَ اللَّهُ رسولهُ وأُمته على
مكَّةَ فطهرُوها مِن ذلك كله، وردُّوا الأمرَ إلى دينِ إبراهيمَ الحنيفِ، وهو
الذي دعا لهم مع ابنه إسماعيلَ عند بناءِ البيت أن يبعثَ اللَّه فيهم رسولاَ
منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمةَ، فبعثَ اللَّهُ فيهم
محمَّدًا - ﷺ - من ولدِ إسماعيلَ بهذه الصِّفةِ، فطهَّرَ البيتَ وما حولَه من الشِّركِ، وردَّ الأمرَ إلى دينِ إبراهيمَ الحنيفِ، والتوحيد الذي لأجلهِ بُنيَ البيتُ، كما قال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦).
وأمَّا تسليطُ القرامطةِ على البيتِ بعد ذلك، فإنَّما كانَ عقوبةً بسببِ ذنوبِ
النَّاسِ، ولم يصلُوا إلى هدمِهِ ونقضِهِ ومنع النَّاسِ من حجّهِ وزيارتِهِ، كما كان
يفعلُ أصحابُ الفيلِ لو قدرُوا على هدمِهِ وصرفِ النَّاسِ عن حجِّهِ،


الصفحة التالية
Icon