غيرهم…كذلك الشأن في معجزة القرآن، أتى به محمد ﷺ لأفصح الناس وأقدرهم على نظم الكلام العربي، ورغم حرصهم على تكذيب الرسول، وإفساد دعوته، لم يفلحوا في مجاراته، ولم يستطيعوا تكذيبه.
وإذا كان العرب الفصحاء عاجزين عن مجاراة أسلوب القرآن في فصاحته وبلاغته، فغيرهم من الأعاجم أعجز.
وقد يقول قائل: إن الأعجمي الذي لا يفهم العربية لا يدرك ما في أسلوب القرآن من نظم معجز، وبلاغة عجيبة، ولا يدري من أين يكون إعجازه، وكيف تكون بلاغته، وعندئذ تسقط الحجة في الإعجاز.
والإجابة على هذا التساؤل سهلة ميسورة، فإن الإعجاز لغير العربي قد بدا واضحا في أشياء أخرى، وجوانب مثيرة متعددة غير البلاغة والفصاحة التي لا يدرك مراميها… فكل يوم تطلع فيه علينا أشياء جديدة، ومكتشفات حديثة، وتبرز إلى الوجود قضايا تحدث عنها القرآن قديما ولم تبد سافرة إلا الآن.
ومع ذلك كله لا نلقى أي تناقض أو تصادم بين هذه الجوانب وتلك النواحي وما في القرآن من نهج اتبعه في التعبير عنها تناسق تام لا نفرة فيه، بحيث يدرك الأعجمي من هذا التناسق في التعبير، والدقة في الأداء القرآني الذي يتفق وما يكتشفه العلم حديثا، سرا من أسرار الإعجاز في الأسلوب البياني للقرآن المجيد.
ترى مثلا القرآن في تعبيره يسلك هذا المسلك ويلتزم بهذا الترتيب البديع حين يقول:
﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ ١.
فيقدم السمع أولا، ويثني بالأبصار، وينتهي بالفؤاد، والحقائق العلمية تثبت أن حاسة السمع تؤدي مهمتها أولا منذ اللحظة الأولى من ولادة الإنسان.
وحاسة الإبصار تؤدي وظيفتها خلال عشرة أيام، فالبصر يؤدي مهمته ثانيا، ثم يأتي بعد ذلك ما يتعلق بالفؤاد من المعلومات العقلية والقلبية٢.
فالترتيب الذي ورد في الآية القرآنية تلمح من خلاله أن اللفظ المقدم أهم من الألفاظ التي ترد بعد ذلك، وهذا هو التعبير القرآني الدقيق، فإذا جاء هذا التعبير على وفق ما قرره العلم، كان التزاوج بين أسلوب القرآن في بلاغته وفصاحته، وأسلوب العلم في اكتشافه وتقريره… فالأعجمي حين يرى هذا التماثل والانسجام بين التعبير القرآني والاكتشاف العلمي، يتحقق من إعجاز القرآن في بلاغته.
على أن علماء النحو قد يكون لهم توجيه خاص في نظم الآية وأمثالها، فيقولون مثلا: إن واو العطف تأتي لمطلق الجمع، بمعنى أنه يجوز في الآية أن تقدم السمع على البصر وتؤخره دون أن يختل المعنى… غير أنه أصبح من الواضح هنا أن الترتيب فيه نوع من الالتزام، نظرا لأهمية المتقدم عما جاء بعده… ونلمح مثل هذا التوافق العجيب بين التعبير القرآني والتقرير العلمي حين يذكر القرآن السمع
٢ القضاء والقدر ص١٢٧- ١٣٠ متولي الشعراوي.