إذن فليس الشأن في هذا الصوت، أو في تلك الدعوة، وإنما هي قوة قادرة… لا ترى… قد جعلت لهذه الكلمة ولتلك الدعوة هذا الأمر المعجز! هي قوة الله تعالى.
أما القرآن فشأنه غير هذا الشأن وأمره على خلاف هذا الأمر!
فهو كلمات، وألفاظ، وعبارات، لا تختلف عما ألف الناس، مما يجري على ألسنتهم من كلام... إنه كلمات مألوفة معروفة… تعامل بها الناس، فأخذوا بها وأعطوا… وقلبوها على جميع وجوهها... في مختلف الأساليب، وشتى التراكيب.
إن كل ما في القرآن من كلام هو مما كان يدور على ألسنة العرب، ومما يصاغ منه نثرهم، ونظمهم.. من خطب، وحكم ومساجلات، ومن قصيد ورجز… وفي هذا يقول الله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ١.
ثم إن هذه الكلمات التي عرفت -بعد- باسم القرآن، والتي تحدى بها الرسول الكريم ﷺ العرب جميعا، ثم الإنس والجن قاطبة، هذه الكلمات لها ما كان لكلمة عيسى حين كان ينطق بها فتتجسد معجزة قاهرة يشهدها الناس، ويرونها رأي العين.
إن هذا الكلام المألوف المعروف حين ضمه القرآن إليه، ونظم منه آياته، وصور منه أحكامه وقصصه، وجدله، ومواعظه، وزواجره، هذا الكلام قد أصبح منذ ذلك اليوم معجزة قاهرة، تتحدى الناس جيلا بعد جيل… وأمة بعد أمة… فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.
ولكن... أين هي المعجزة في هذا الكلام؟ وماذا يبدوا للناس منها؟ وماذا يشهدون من إعجازها؟ وكيف يضع الناس أيديهم على المعجزة، ويرفعون أبصارهم إليها؟.
إنها معجزة لا ترى بالعين، ولا تلمس باليد!
وعلى الناس أن يسمعوا لهذا الكلام، وأن يتدبروا آياته… وعندئذ يرون ببصائرهم -لا بأبصارهم- في كل آية معجزة قاهرة… تعنو لها الجباه، وتخضع لها الرقاب.
إن على الناس أنفسهم… أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم لهذه الكلمات، فإنهم إن فعلوا تكشف لهم منها ما كان يتكشف من عصا موسى عليه السلام ويده، ومن كلمة عيسى عليه السلام… وهذا مفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنما كان هذا الذي أوتيته وحيا أوحي إلي" ٢.
إنها آيات… معجزات… وما يعقلها، ويعرف وجه الإعجاز فيها إلا العالمون الذين يلقون أسماعهم لها، ويفتحون قلوبهم وعقولهم للحق الذي فيها، وللنور الذي معها.
ومن ثم كانت أنظار المسلمين دائما معلقة بهذا الكتاب، يدرسونه، ويتدارسونه، ويلقونه بكل ما تسعفهم به الحياة من علوم ومعارف، فيجدون كل شيء دون ما في كتاب الله من علوم ومعارف، فيزداد لذلك تعلقهم بكتاب الله، وتتوثق صلتهم به، ويشتد إقبالهم عليه، ومدارستهم له.
٢ البخاري.