فعُلِمَ بذلك أن ﴿اقْرَأْ﴾ أول ما نزل مطلقًا، وأن سورة المدثر بعده". وكذلك قال ابن حبان في صحيحه: لا تضاد بين الحديثين، بل أول ما نزل: ﴿اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ بغار حِراء، فلما رجع إلى خديجة -رضي الله عنها- وصبت عليه الماء البارد، أنزل الله عليه في بيت خديجة: ﴿َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر﴾ ُ.. فظهر أنه لما نزل عليه ﴿اقْرَأْ﴾ رجع فتدثر، فأنزل عليه: ﴿َيا أَيُّهَا المُدَّثِّر﴾..
وقيل: أول ما نزل سورة الفاتحة، رُوِيَ ذلك من طريق أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سمع الصوت انطلق هاربًا، وذكر نزول المَلَك عليه وقوله: قل ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾... إلى آخرها.
وقال القاضي أبو بكر في "الانتصار": وهذا الخبر منقطع، وأثبت الأقاويل: ﴿اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ويليه في القوة: ﴿يا أَيُّهَا المُدَّثِّر﴾.. وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات: ﴿اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ وأول ما نزل من أوامر التبليغ: ﴿يا أَيُّهَا المُدَّثِّر﴾.. وأول ما نزل من السور سورة الفاتحة، وهذا كما ورد في الحديث: "أول ما يُحاسَب به العبد الصلاة" ١، و "أول ما يُقضى فيه الدماء" ٢، وجمع بينهما بأن أول ما يُحكم فيه من المظالم التي بين العباد الدماء. وأول ما يُحاسب به العبد من الفرائض البدنية الصلاة.
وقيل: أول ما نزل للرسالة: ﴿يا أَيُّهَا المُدَّثِّر﴾.. وللنبوة: ﴿اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ فإن العلماء قالوا: قوله تعالى: ﴿اقْرَأَ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ دال على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لأن النبوة عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان المَلَك بتكليف خاص، وقوله: ﴿يا أَيُّهَا المُدَّثِّر، قُمْ فَأنْذٍرْ﴾ دليل على رسالته -صلى الله عليه وسلم- لأنها عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان المَلَك بتكليف عام"٣.
٢ رواه البخاري في كتاب "الديَات" ولفظه: "أول ما يُقْضَى بين الناس في الدماء".
٣ انظر "البرهان في علوم القرآن" للزركشي، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم جـ١ ص٢٠٦ وما بعدها.