﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ ﴾
قوله تعالى: ﴿ويَسْألونَكَ عَن المَحِيضِ﴾.
أكثرُ العلماء على أنها ناسخةٌ لشريعة بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا لا يجتمعون مع الحائضِ في بيتٍ، ولا يأكلونَ ولا يشربون معَها، فَنَسخَ الله ذلك من شريعتهم، و أمرنا باعتزال الحائض مِن الوطءِ لا غير.
قال أبو محمد؛ وإنما أُدْخِلَ هذا وأشباهُه في الناسخوالمنسوخ، وهو لم ينسخ قرآناً، لقوله تعالى: ﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه﴾ [الأنعام: ٩٠] - علىقولِ مَن قال -: تلزمُنا شريعتُهم حتى نؤمَر بتركها.
فأمّا من قال: لا يلزمُنا من شريعتِهم إلاّ ما أَمَرَنا به منها، فلا يجبُأن يُدْخِل هذا (ونحوه) في الناسخ والمنسوخ؛ إذ لم يَنْسخ قرآناً، وهو الصّواب - إن شاء الله تعالى - لأن معنى: ﴿فَبهُداهم اقتَدِه﴾ يعني: فيالتوحيد خاصة، لا في الشّرائع. ويدلُّ على أنه ليس يُرادُ به الشرائعُ التي كانوا عليها، قولُه: ﴿لِكُلٍّ جعلنا مِنكُم شِرْعَةً ومنهاجاً﴾ [المائدة: ٤٨].
ويدلُّ على ذلك أيضاً أنَّ شرائعَ مَن كان قبلَنا مختلفةٌ في الأحكام، ولا سبيل لنا إلى الجمع بين (التّحريم والتّحليل) في شيء واحد، ولاإلى فعل شيءٍ وتركِه في عبادةٍ واحدةٍ. فقد كانت لحومُ الإِبل وألبانُها وشحومُالبقر والغنم حلالاً لمن كان قبلَ يعقوب من الأنبياء، ثم حُرِّمَت على يعقوبوعلى بني إسرائيل، فلا سبيلَ إلى الجمعِ بين الشَّريعتين البتَّة. والله - جلَّ ذكره - لم يخصَّ الأمرَ بالاقتداء بشريعةِ واحدٍ من الأنبياء، (وإنما جَمَعَهُم) فقال: ﴿فَبهُداهُمُ اقْتَدِه﴾. وهم لم يجتمعوا إلاَّ على التّوحيدوالتّصديق بالله ورسلِه وكُتُبِه. واختلفوا في الشرائع التي شرعَ (الله لهم)على (ما شرع) لكُلِّ نبي.
فليس علينا أن نقتديَ من فعلِهم إلا بما اجتمعوا عليه. وما اختلفوا فيه لا سبيلَ إلى فعلِه لاختلاف أحكامه في شرائِعهم. وإنما نفعلُ مِنشرائعهم ما أُمِرْنا به. فعلى هذا القول: كان يجب ألاّ تُدْخَل هذه الآيةُونحوها في الناسخ والمنسوخ؛ لأنها لم تنسخ قرآناً.
ومذهب مالك في هذا الباب: أنّ ما أنزلَ الله علينا في كتابة وأعلَمنا أنهكان فرضاً عليهم ولم يأمرنا بخلافه، ولا بِتَرْك العمل به فواجبٌ علينا العملُبه، نحو قوله تعالى: ﴿وكَتَبْنَا علَيْهِمْ فِيهَا أنّ النَّفْسَ﴾ [المائدة: ٤٥] الآية. وقد اعتُرِضَعلى هذا المذهب بقصَّة أَيوب في يمينه، وبتزوُّجِ موسى (إحدىالمرأتين)، ولا يقول مالك بشيءٍ مِن ذلك. و(عن هذا) أجوبةٌ يطولُ ذكرُها، ليست مِن هذا العلم، سنذكرُها في غير هذا الكتاب إن شاء الله.
وهذه المعاني من الأصول لها مواضعُ يُتَقَصَّى الكلامُ فيهاويُبَيِّن في غير هذا الكتاب - إن شاء الله - (فهيَ) أصلُ الفقه والدِّين، وعليها بنى الفقهاءُ مسائلَهم وفُتْياهم، وإنما اختلفوا في الفُتْيا على نحواختلافِهم في معاني الأُصول. فمعرفةُ الأُصول عليها العُمْدَةُ عندَ أهلالفَهْم والنظر. ومعرفةُ المسائلِ (بغير معرفة) الأُصولِ إنما هو للمقلِّدينالضعفاء في الأفهام.