﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّها الذينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلواوُجُوهَكُمْ﴾.
(هذه الآية) عند جماعة ناسخةٌ لقوله: ﴿لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وأَنتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣]؛ لأن مفهومَ الخطاب جوازُ قُرْبِ الصلاةِ لغير السَّكران جوازاًعاماً بلا شرط غَسلٍ ولا وضوء، ثم منع في هذه الآية أن تُقْرَبَ الصَّلاةُ إلاّبالغسل المذكور للأعضاء المذكورة، والمسح للرأس.
وقيل: الآيةُ ناسخةٌ لفعل النبي - عليه السلام - كان إذا أَحدَثَ لم يُكلِّمأحداً حتى يتوضأ، فنسخَ اللهُ ذلك بالأمر بالوضوء عند القيام إلى الصَّلاة.
ومعنى ﴿إذَا قُمْتُمْ﴾: إذا أردتم القيام، كما قال تعالى: ﴿فإذا قرأتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيم﴾ [النحل: ٩٨]، أي: إذا أردت قراءة القرآنفاستعذ بالله.
وقد قيل: إن ظاهرَ الآية إيجابُ الوضوء على كل مَن قام إلى صَلاةٍ، وإن كان على وضوء، لكنه نسخ بتواتر الأخبار أن النبي - عليهالسلام - كان يُصَلِّي صلواتٍ بوضوء واحد، وبالإِجماع على جواز ذلكوفعله.
والأحسن أن يقال: خُصِّصَ وبُيِّنَ بالإِجماع على جواز صلواتٍبوضوء واحد، وبالسُّنَّةِ المتواترة بفعل [النبي صلى الله عليه وسلم] ذلك، فيكون مخصَّصاًومبيَّناً أولى من أن يكون منسوخاً، هذا على قول من لم يُجِزْ النسخ بالإِجماعولا بالسنّة المتواترة؛ إذ لا اختلاف في جواز تخصيص القرآن وتبيينه(بالإِجماع وبالسُّنَّةِ المتواترة).
ورُوِيَ عن علي أنه جعل الآيةَ للوضوء لكل صَلاةٍ على النَّدب، نَدَبَكل من قام إلى الصلاة أن يتوضأ لها، وإن كان على وضوء، وكان علي- رضي الله عنه - يتوضأ لكل صلاة للفضل لا لأَنه واجب.
وقد ذهب قوم إلى وجوبه بظاهر الآية، وهو مروي عن عكرمة وابنسيرين. والجماعة على خلافهما، لِلإِْجماع السابق قبلَهما. والأخبار المتواترة على غير ذلك.
وقد قال زيدُ بنُ أسلم: الآية مخصوصةٌ يراد بها مَن كان على غيرطهارة، والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وعليه جماعة الفقهاء، وهو الصواب، إن شاء الله. فيدخل تحت الحدث النوم وغيره؛ فالآية محكمةفي هذه الأقوال.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: فَرْضُ غَسْلِ الرِّجْلَين ناسخٌللمسح على الخفين. وعن عائشة وأبي هريرة أنهما منعا المسح على الخفين وهي رواية ضعيفة.
وأكثر الفقهاء وأهل السنّة وأهل الحديث، وأكثر الرواة عن الصحابةوالتابعين على جواز المسح على الخفين في (السفر والحضر). فهو غير منسوخ بل هو توسعة وتخفيف على المسلمين. وهو بدل من الغسل.
فأمّا من قرأ: "وأرجُلِكُم" - بالخفض - فهي قراءة مُجْمَعٌ عليه لا اختلاف في جوازها والقراءة بها. وهي توجب جواز المسح على (الأرجل)وليس على ذلك عمل. وقد قيل فيه أقوال:
وقيل: هو (محكم) منسوخ بفعل النبي - عليه السلام - وغسله لرجليه دون أن يمسح، نقل ذلك نقلاً متواتراً، وقد أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بتخليلالأصابع، وذلك لا يصح إلا مع الغسل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ للأعقاب من النار"، لما رأى قوماً توضؤوا وأعقابُهم تلوح لم يصل إليها الماء، وهذا لايكون إلا بالغسل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أسبغوا الوضوء" وذلك لا يكون إلامع الغسل.
وقد قيل: إن القراءة - بالخفض - غيرُ منسوخة لكنّها تَدُلُّ على (ما تَدُلُّعليه، القراءة) - بالنصب - من الغَسْل وذلك أن معنى التمسح: التطهر، يقال: تمسحتُ لِلصَّلاة، أي، تطهَّرت لها: فيكون معنى: وأرجلكم- بالخفض -: أي: طهروها بالماء، فلما كان المسحُ يجوزُ أن يقع علىالطهارة بيَّن النبي بفعله أن المراد بالمسح - في قراءة مَن خفضالأرجل -: الغسل.
وقد روي عن الشعبي أنه قال: نزل القرآنُ بالمسح - يعني علىالأرجل - قال: وجاءت السُّنَّةُ بالغسل، فجعل المسحَ هو الفرض، والغسلبالسنّة، كأنه جعل السنّة ناسخةً للفرض؛ إذ قد أجمع على أنه لا يجوز مسح الرجلين في الوضوء دون الغسل، وإنما المسح الجائز على الخفين.
وقد قال بعض أهل العربية واللغة: إن معنى القراءة - بالخفض -: وامسحوا برؤوسكم وأَرجُلِكُم غَسْلاً، ودلَّ على هذا الغَسْلِ المحذوفِقولُه: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيديَكُمْ إِلَى المَرَافِق﴾، ودَلَّ على أن المرادَالغسلُ، وأكَّده التحديدُ في قوله: ﴿إلى الكَعْبَيْن﴾، كما قال في الأيدي: ﴿إلى المَرَافِق﴾.
وقد قال الأخفش وأبو عبيدة: إنما خُفِضَت الأرجلُ - في قراءة مَنخفضها - على الجوار للرؤوس، لا على العطف عليها. والخفضُ على الجوار لا يوجِبُ حُكْمَ الذي جاورَه وَحُمِلَ على إعرابه للمجاورة، إنما يوجِبُ الْحُكْمَ الخَفْضُ على العطف.
ومن قال: إنه خفضٌ - على العطف - احتجَّ بأنَّ حمل الكلام علىأقرب العاملين أحسن، فلما كان قبل الأرجل عاملان: الغسل والباء، والباءأقرب، حمل الكلام على الباء لقربها منه، وهو الأكثر في كلام العرب، وحَسُنَ ذلك لما في الكلام من الدليل على أن المراد به الغسل. وقد روى أبو زيد اللغوي: أن المسحَ: خفيفُ الغَسْل. وقال أبو عبيدة في قوله: ﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوقِ والأعْنَاقِ﴾ [ص: ٣٣]: أن المسح هنا: الضرب، فكذلك المسح في الأرجل: الغَسْلُ الخفيف.
فأما المسح على الخفين:
فإن ابن عباس يقول: "مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين قبل نزولالمائدة"، فلما نزلت المائدة بالغَسْل نسخَ ذلك المسحَ، وقال: "والله ما مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد المائدة".
وقال جريرُ بن عبد الله: مسح النبي - عليه السلام - على الخفين بعد نزول المائدة - وكان إسلامُ جرير بعد نزول المائدة في (شهر) رمضانسنة عشر - وعلى هذا أكثر الناس لأن من أثبت أولى بالقبول ممّن نفى. هذا أصل مجمع عليه.
وقد اختلف قولُ مالك في جواز المسح (على الخفين) للمقيم. وعلى جوازه أكثر أهل السنّة.