وَلَمْ يَفْعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ العذاب إذ الدنيا ليس دَارُ الْجَزَاءِ الْعَامِّ وَإِنَّمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَنْ أَرَادُوا عَدَاوَةَ أَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ لِيُهْلِكُوهُ فَعَصَمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ صُورَةَ الْهَلَاكِ نِعْمَةً فِي حَقِّهِ وَلَمْ يُهْلِكْ أَعْدَاءَهُ بَلْ أَخْزَاهُمْ وَنَصْرَهُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ كَيْدِهِمْ وَأَظْهَرَهُ حَتَّى صَارَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا ثُمَّ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا سَيِّدُ الْجَمِيعِ وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ كَمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلُهُ وَالْخَلِيلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْجَمِيعِ وَفِي طَرِيقِهِمَا مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَيْسَ فِي طَرِيقِ غَيْرِهِمَا وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ذَنْبًا غَيْرَ الشِّرْكِ وَكَذَلِكَ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَأَمَّا عَادٌ فَذَكَرَ عَنْهُمُ التَّجَبُّرَ وَعِمَارَةَ الدُّنْيَا وَقَوْمُ صَالِحٍ ذَكَرَ عَنْهُمُ الِاشْتِغَالَ بِالدُّنْيَا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلُ مَدْيَنَ الظُّلْمَ فِي الْأَمْوَالِ مَعَ الشِّرْكِ وَقَوْمُ لُوطٍ اسْتِحْلَالَ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالتَّوْحِيدِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَمِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا كَانَ دِينُهُمُ اسْتِحْلَالُ الْفَاحِشَةِ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ الرَّبِّ وَعُقُوبَتِهِ لِكُلِّ قَوْمٍ بِمَا يُنَاسِبُهُمْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمِ نُوحٍ خَيْرٌ يُرْجَى غَرِقَ الْجَمِيعُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَصْلَ وَعَظِّمْ فَوَائِدَهُ وَتَدَبَّرْ حِكْمَتَهُ فَإِنَّهُ سِرٌّ عَظِيمٌ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾، فَأَعَادَ ذِكْرَ الْأَنْهَارِ مَعَ كُلِّ صِنْفٍ، وَكَانَ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ فِيهَا: أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ، وَمِنْ لَبَنٍ، وَمَنْ خَمْرٍ، وَمِنْ.