وَإِنْ كَانَ "مَنْ تَبِعَكَ" يَقْتَضِي الْغَيْبَةَ وَحَسَّنَهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَائِبُ تَبَعًا لِلْمُخَاطِبِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْعُقُوبَةِ جُعِلَ تَبَعًا لَهُ فِي اللَّفْظِ أَيْضًا وَهَوَ مِنْ مَحَاسِنِ ارْتِبَاطِ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ غَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ حَيْثُ أَتَى بِ "مَا" لِكَثْرَتِهِ وَفِي آيَةٍ أُخْرَى بِ "مِنْ" فَغَلَّبَ الْعَاقِلَ لشرفه ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ أَدْخَلَ شُعَيْبٌ فِي "لَتَعُودُنَّ "بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ أَصْلًا حَتَّى يَعُودَ فِيهَا وَكَذَا قَوْلُهُ ﴿إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ﴾ ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ عُدَّ مِنْهُمْ بِالِاسْتِثْنَاءِ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ كَانَ بَيْنَهُمْ ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ أَيِ الِمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَغَلَّبَ الْمَشْرِقَ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الجهتين ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ أَيِ الِمِلْحِ وَالْعَذْبِ وَالْبَحْرُ خَاصٌّ بِالْمِلْحِ فَغُلِّبَ لِكَوْنِهِ أَعْظَمَ ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ﴾ أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالدَّرَجَاتُ لِلْعُلُوِّ وَالدَّرَكَاتُ لِلسُّفْلِ فَاسْتَعْمَلَ الدَّرَجَاتِ فِي الْقِسْمَيْنِ تَغْلِيبًا لِلْأَشْرَفِ
قَالَ فِي الْبُرْهَانِ: وَإِنَّمَا كَانَ التَّغْلِيبُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ" الْقَانِتِينَ" مَوْضُوعٌ لِلذُّكُورِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إِطْلَاقٌ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَكَذَا بَاقِي الْأَمْثِلَةِ
وَمِنْهَا اسْتِعْمَالُ حُرُوفِ الْجَرِّ فِي غَيْرِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الْأَرْبَعِينَ.