قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هِيَ مِنْ أَعْظَمِ آيٍ فِي الْقُرْآنِ فَصَاحَةً إِذْ فِيهَا أَمْرَانِ وَنَهْيَانِ وَخَبَرَانِ وَبِشَارَتَانِ
وَقَوْلُهُ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ: الْمَعْنَى: صَرِّحَ بِجَمِيعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ وَبَلِّغْ كُلَّ مَا أُمِرْتَ بِبَيَانِهِ وَإِنْ شَقَّ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْقُلُوبِ فَانْصَدَعَتْ وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُؤْثِرُهُ التَّصْرِيحُ فِي الْقُلُوبِ فَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ الْوُجُوهِ مِنَ التَّقَبُّضِ وَالِانْبِسَاطِ وَيَلُوحُ عَلَيْهَا مِنْ عَلَامَاتِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْشَارِ كَمَا يَظْهَرُ عَلَى ظَاهِرِ الزُّجَاجَةِ الْمَصْدُوعَةِ فَانْظُرْ إِلَى جَلِيلِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ وَعِظَمِ إِيجَازِهَا وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ سَجَدَ وَقَالَ: سَجَدْتُ لِفَصَاحَةِ هَذَا الْكَلَامِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ قال بعضهم جمع بهاتين اللفظين مَا لَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى وَصْفِ مَا فِيهَا عَلَى التَّفْصِيلِ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْهُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ فَإِنَّ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ وَلَفْظُهُ قَلِيلٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَتَى قَتَلَ قُتِلَ كان ذلك داعيا إلى ألا يُقْدِمَ عَلَى الْقَتْلِ فَارْتَفَعَ بِالْقَتْلِ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ كَثِيرٌ مِنْ قَتْلِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَكَانَ ارْتِفَاعُ الْقَتْلِ حَيَاةً لَهُمْ وَقَدْ فُضِّلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى أَوْجَزِ مَا كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُهُمْ "الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ" بِعِشْرِينَ وَجْهًا أَوْ أَكْثَرَ وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ الْأَثِيرِ إِلَى إِنْكَارِ هَذَا التَّفْضِيلِ وَقَالَ: لَا تَشْبِيهَ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ يَقْدَحُونَ أَذْهَانَهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ ذِلَكَ.


الصفحة التالية
Icon