وتوسط ابن دقيق العيد فقال: إذا كان التأويل قريبًا من لسان العرب العرب قلنا به؛ نحو: ﴿عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ أُوِّلَ بحقه، وإذا كان التأويل بعيدًا توقفنا عنه، ونزهنا الله عما يفيده ظاهر اللفظ، وفوضنا العلم له بالمراد..
وهذا القول غير سائغ؛ لأن التأويل البعيد مرفوض في أي شيء.
والحق أن طريقة السلف أسلم وأحكم في الأصول١، وطريقة الخلف أكثر إقناعًا للذين يثيرون الشبهات، وإليك بعض الأقوال في بعض هذه الآيات المتشابهات:
١- ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ :
أ- معنى "استوى": استقر، وهذا موهم للتجسيم.
ب- معناه: استولى.. ويرد بأن الاستيلاء لا يكون إلا بعد مغالبة ومضادة. وتعالى الله أن يغالبه شيء.. وأيضًا إنه مستولٍ على الأكوان كلها. فما معنى تخصيص العرش؟
جـ- معنى "استوى": صَعِدَ.. ويرد بأنه منزه عن الصعود.
د- "علا" في الآية -فعل. و"العرش": مبتدأ، والمعنى: الرحمن استعلى والعرش له استوى.. ويرد بأنها حرف والعرش مجرور بها.
هـ- الكلام تم عند العرش، والابتداء من ﴿اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾.. ويرد بأن هذا بتر للمعنى، وإذا قلنا: الرحمن على العرش؛ بقي الاعتراض قائم.
و أن معنى "استوى": أقبل، والتقدير: الرحمن أقبل على خلق العرش؛ كقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾.. ويبعده أنه لو كان كذلك لتعدى بإلى؛ كما في: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾.
ز- "استوى" بمعنى: اعتدل؛ أي: قام بالعدل؛ كقوله: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ هذا بعض ما قيل في هذه الآية٢.
ولو تنبه المؤولون إلى أن أفعال الله مجردة من الزمان، ولا تدل إلا على الحدث؛ لنفعهم ذلك.
٢ صرف هذه النصوص عن ظواهر ألفاظها اللغوية المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر الموهمة للتشبيه غير مرادة قطعًا، فالفريقان -بالإجمال- قصدوا اعتقاد التنزيه عن هذه الظواهر؛ لكن دون تعيين التأويل المراد، أما الخلف فقد خطوا خطوة ثانية، وهي تفسير تلك النصوص حسبما يتبادر منها وفق استعمالات كلام العرب.