لذاك، وأن يظن المبتلى بالتضييق أن هذا لهوان أمره على ربه تعالى.
كلا، ليس الأمر في الحالين على ما تصوره هذا الإنسان، فالله سبحانه وتعالى إنما يبلوه بالشر والخير فتنة.
وذلك ما انتهى إليه ابن القيم بقوله: "وأخبر تعالى أن توسعته على من وسع عليه وإن كان إكرامأ له في الدنيا فليس ذلك إكراماً على الحقيقة ولا يدل على أنه كريم عنده من أهل محبته، وأن تقتيره على من قتر عليه لا يدل على إهانته له وسقوط منزلته عنده، بل يوسع ويقتر ابتلاءً وامتحاناً. فيبتلى بالنعم كما يبتلى بالمصائب".
وبعد سورة الفجر، نزلت آيات محكمات في مثل هذل الإبتلاء، وأكثر ما يكون بالنعم والمال يمتحن الإنسان فيكشف عن خيريته وإيثاره أو غروره وأثرته، وبالفقر والحرمان يبلو تعففه وصبره أو ذلته وقنوطه. وبالجهاد يكشف عن ثباته وصدق إيمانه أضعفه وتخاذله، كآيتى القتال (محمد) :
﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ - ٤.
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ ٣١.
ومن الإبتلاء جاء البلاء في المصائب ومواقف الشدة امتحاناً لطاقة الإنسان ومعدنه، كالذي في آيات: (الأعراف ١٤١، إبراهيم ٦، البقرة ٤٩).
والإبتلاء في سورة الفجر، إنما هو بالنعمة من حيث هي ذريعة ترف وفساد في الأرض، وبالإكرام من حيث هو منظة غرور وأثره واستكبار وتعال على الناس وعدوان على حقوقهم بدعوى الأهلية للتشريف والإكرام من الله. وكذلك الإبتلاء بالحرمان والضيق في الرزق، من حيث هما مظنه الشغف بالدنيا واشتهاء ما لم يتح للمحروم من ملاذها، والإحساس بهوانه على ربه الذي قسم الرزق، يبسطه سبحانه على من يشاء ويقدر....
* * *
{كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (١٨)