ولفت "أبو حيان" إلى أن ذكر ﴿رَبَّكُ﴾ في الآية الأولى، إيناس للمصطفى وتعيين لربه، لا رب غيره. ثم جاء بصفة الخالق، وهو المنشئ للعالم، لما كانت العرب تسمى الأصنام أرباباً، فأتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها.
وكل هذا مما يمكن أن يقال.
وليس هو، على أي حال، بأبعد مما ابتدعه محدثون اتجهوا بهذه الآية إلى مجال البحث في علم الأجنة، والتمسوا المراجع الأجنبية لعلماء الفسيولوجيا والبيولوجيا، لفهم آية نزلت على النبي الأمي في قوم أميين لم يسمعوا قط، ولا سمع عصرهم، بعلم الأجنة. وغير متصور أن يكون القرآن الكريم قدم لهم من آيات ربوبية الخالق وقدرته، ما لا سبيل لأحد منهم إلى تصوره، فضلاً عن فهمه وإدراكه.
وإنما فهموا من العلق ما تعرفه لغتهم وبيئتهم وعصرهم، والعربية قد استعملت العلق مادياً في كل ما يعلق وينشب: كالدم، والمحور الذي تعلق عليه البكرة، وعلقت النرآة حملت، ومعنوياً في العلاقة تنشب بين لثنين حباً أوبغضاً، وفي الصلة تربط بينهما.
ولم يكونوا في حاجة إلى درس في علم الأجنة أو مراجعة كتاب في المكتبة الأمريكية التي ظهرت بعدهم بقرون، ليفهموا آية خلق هذا الإنسان من علق في أرحام الأمهات، وهم الذين ألفوا استعمال: علقت المرآة، بمعنى حملت.
واستعمال العلق هنا، جمع علقة، إيذان بما ذهبت إليه من إطلاق في عموم لفظ الإنسان.
ولا يشير السياق إلى أن القصد من ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ توجيه المصطفى ومن يؤمنون برسالته إلى النظر في علم الأجنة، وإنما هي آية الله في هذا الإنسان، خلقه من علق، وخصه بالعلم، واحتمل أمانة التكليف، فازدهاه الغرور وأطغاه الشعور بوهم الاستغناء عن خالقه، فنسى أن إليه، سبحانه، الرجعى والمصير.....


الصفحة التالية
Icon