سبحانه وتعالى، فقد كان الخمر ميسرًا في الجاهلية لمبتغيه فالتمر والعنب أصناف لا يخلو منها بيت في أرض الحجاز، فالنخيل من زراعة المدينة وما حولها ولا يزال، والعنب في الطائف ولا يزال، واعتصارهما خمرًا أمر معروف لا يكاد ينكره أحد، وشربه شأن مألوف لا يكاد ينكره أحد. وليس من السهل الامتثال للإقلاع عنه لأول الأمر ما لم يكن وراء ذلك عقيدة راسخة واقتناع تام.
فجاء القرآن الكريم بترسيخ العقيدة وتثبيت أركانها حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام شرع في الحلال والحرام ومنه حكم الخمر، مراعيًا أحوالهم فيها واعتيادهم عليها، متخذا من رسوخ العقيدة والتدرج في التحريم وسيلة حكيمة لعلاج هذا الداء وانتزاعه من جسد هذه الأمة فجاء تحريمه بالتدريج، وقد وصفت عائشة -رضي الله عنها- هذا التدريج فقالت: "إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا. لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلم- وإني لجارية ألعب: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ "١. وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده"٢.
وجاء التدرج في تحريم الخمر على النحو التالي:
المرحلة الأولى:
أو ما نزل في الخمر قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ ٣.
وقد ذكر ابن العربي أقوال العلماء في معنى "سكرا" ثم قال: أما هذه الأقاويل فأسدها قول ابن عباس: "أن السكر الخمر"٤ وهل نزلت هذه
٢ صحيح البخاري ج٦ ص١٠١.
٣ سورة النحل: الآية ٦٧.
٤ أحكام القرآن: ابن العربي ج٣ ص١١٤١.