وإن كان قد أيّد بعد ذلك بمعجزات جمّة، لا يمكن إنكارها.. إلاّ أنّ معجزة القرآن "كانت معجزة عامة، عمّت الثقلين١، وبقيت بقاء العصرين٢، ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله وجه دلالته".
ويذكر الباقلاني.. أنه ما خصّص هذا الفصل ولا ألّفه إلاّ للرد على المتكلمين، وتفنيد مزاعمهم.. "لما حكى عن بعضهم أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول، فليس أهل هذا العصر الأول في الدلالة لأنهم خصّوا بالتحدي دون غيرهم".
ويبيِّنُ الباقلاني خطأ هذا الزعم، ويستدل على ذلك بأدلة من القرآن نفسه وبآيات بينات تثبت أن الله -سبحانه وتعالى- حين ابتعث نبيه، جعل معجزته القرآن، وبنى أمر نبوته عليه.
من ذلك قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ ٣ فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا تكون حجة إن لم تكن معجزة..
ويرى الباقلاني أنه ما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة٤، إلا وتدلّ على هذه المعجزة، بل إنّ كثيرا من السور إذا تؤمل - فهو من أوله إلى آخره- مبني على لزوم حجة القرآن والتنبيه على وجه معجزته. ويستشهد على ذلك بسورة المؤمن٥، ويحلّلها تحليلا دقيقا يبرز فيها أسرار الإعجاز.
ولا يترك الباقلاني إثبات أنّ نبوة محمد - ﷺ - مبنية على دلالة معجزة القرآن دون أن يبيِّن ويحدِّد وجه هذه الدلالة.. لذلك أعقب هذا الفصل بفصل في الدلالة على أن القرآن معجزة٦ في ذاته. وقد اعتمد الباقلاني في تبيين وجه الدلالة على أصلين اثنين:

١ الإنس والجن.
٢ الليل والنهار.
٣ سورة إبراهيم الآية الأولى، ومن ذلك أيضا قوله تعالى في الآية ٦ من سورة براءة، والآية ١٩٥ من سورة الشعراء.
٤ مثل: طسم، كهيعص، حم.
٥ هي سورة غافر، أما سورة "المؤمنون" فهي ﴿قد أفلح المؤمنون..﴾ وسميت سورة غافر سورة "المؤمن" لقوله تعالى في هذه السورة ﴿وقَالَ رَجُلٌ مؤمن مِنْ آلِ فِرعَون..﴾ الخ.
٦ إعجاز القرآن ص٤١.


الصفحة التالية
Icon