قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً، أَيْ: هَذَا الَّذِي بَيَّنَّا. وَقِيلَ: هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ طَرِيقُ رَبِّكَ وَدِينُهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يَعْنِي: الْجَنَّةَ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ وَدَارُهُ الْجَنَّةُ. وَقِيلَ:
السَّلَامُ هُوَ السَّلَامَةُ، أَيْ: لَهُمْ دَارُ السَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ. وَسُمِّيَتْ دَارَ السَّلَامِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَهَا سَلِمَ مِنَ الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ حَالَاتِهَا مَقْرُونَةٌ بالسلام، فقال فِي الِابْتِدَاءِ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) [الْحِجْرِ: ٤٦]، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ:
٢٣- ٢٤]، وَقَالَ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (٢٦) [الواقعة: ٢٥- ٢٦]، وقال:
وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: ١٠]، سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) [يس: ٥٨]، وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، قَالَ الْحُسَيْنُ [١] بْنُ الْفَضْلِ: يَتَوَلَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالتَّوْفِيقِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ، قَرَأَ حَفْصٌ: يَحْشُرُهُمْ بِالْيَاءِ، جَمِيعاً، يَعْنِي: الْجِنَّ وَالْإِنْسَ يَجْمَعُهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ، وَالْمُرَادُ بِالْجِنِّ: الشَّيَاطِينُ، قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ، أَيِ: اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ بِالْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ، أَيْ: أَضْلَلْتُمْ كَثِيرًا، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ، يَعْنِي: أَوْلِيَاءَ الشياطين الذين أَطَاعُوهُمْ مِنَ الْإِنْسِ، رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا سَافَرَ وَنَزَلَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْجِنِّ، قَالَ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، فَيَبِيتُ فِي جِوَارِهِمْ، وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ: هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا قَدْ سُدْنَا الْإِنْسَ مَعَ الْجِنِّ، حَتَّى عَاذُوا بِنَا فَيَزْدَادُونَ شَرَفًا فِي قَوْمِهِمْ وَعِظَمًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) [الْجِنِّ: ٦]، وَقِيلَ: اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ مَا كَانُوا يُلْقُونَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَرَاجِيفِ وَالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَتَزْيِينُهُمْ لَهُمُ الْأُمُورَ الَّتِي يهوونها، حتى يسهل فعلها عَلَيْهِمْ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ طَاعَةُ الْإِنْسِ لَهُمْ فِيمَا يُزَيِّنُونَ لَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْمَعَاصِي.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ طَاعَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَمُوَافَقَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا، يَعْنِي: الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: النَّارُ مَثْواكُمْ، مَقَامُكُمْ، خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ، اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ [هُودٍ: ١٠٧]، قِيلَ: أَرَادَ إِلَّا قَدْرَ مُدَّةِ مَا بَيْنَ بَعْثِهِمْ إِلَى دُخُولِهِمْ جَهَنَّمَ، يَعْنِي: [هُمْ] [٢] خَالِدُونَ فِي النَّارِ إِلَّا هَذَا الْمِقْدَارَ، وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: النَّارُ مَثْواكُمْ، أَيْ: خَالِدِينَ فِي النَّارِ، الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمٍ سَبَقَ فِيهِمْ عِلْمُ اللَّهِ أَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ فيخرجون من النار، وما بِمَعْنَى (مَنْ) عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، قِيلَ: حكيم بمن استثنى عليم بما فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٩ الى ١٣٠]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)

(١) في المخطوط وحده «الحسن».
(٢) زيادة عن المخطوط وط.


الصفحة التالية
Icon