قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، مِنَ الدُّخُولِ بِالْإِذْنِ وَغَيْرِ الْإِذْنِ، وَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ قَالُوا: كَيْفَ بِالْبُيُوتِ الَّتِي بَيْنَ مكة والمدينة والشام على ظَهْرِ الطَّرِيقِ، لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ، أَيْ: بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فِيها مَتاعٌ لَكُمْ، يَعْنِي مَنْفَعَةً لَكُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبُيُوتِ، فَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْخَانَاتُ وَالْبُيُوتُ وَالْمَنَازِلُ الْمَبْنِيَّةُ لِلسَّابِلَةِ لِيَأْوُوا إِلَيْهَا ويؤووا أمتعتهم إليها فيجوز [١] دُخُولُهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِ وَالْمَنْفَعَةُ فِيهَا بِالْنُزُولِ وَإِيوَاءِ الْمَتَاعِ وَالِاتِّقَاءِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ بُيُوتُ التُّجَّارِ وَحَوَانِيتُهُمُ الَّتِي بِالْأَسْوَاقِ يَدْخُلُونَهَا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَهُوَ المنفعة. قال إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَيْسَ عَلَى حَوَانِيتِ السُّوقِ إِذْنٌ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا جَاءَ إِلَى حَانُوتِ السُّوقِ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ثُمَّ يَلِجُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْبُيُوتُ الْخَرِبَةُ، وَالْمَتَاعُ هُوَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِيهَا مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ.
وَقِيلَ: هِيَ جَمِيعُ الْبُيُوتِ الَّتِي لَا سَاكِنَ لَهَا لِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ إِنَّمَا جَاءَ لِئَلَّا يُطَّلَعَ عَلَى عَوْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يُخَفْ ذَلِكَ فَلَهُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ، أَيْ: عَنْ النَّظَرِ إِلَى مَا [لَا] [٢] يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ.
وقيل: «من» صلة يعني يَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ ثَابِتٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِغَضِّ الْبَصَرِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغَضُّ عَمَّا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِأَنْ يَغُضُّوا عَمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، عَمَّا لَا يَحِلُّ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ عَنِ الزِّنَا وَالْحَرَامِ، إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِتَارَ حَتَّى لَا يَقَعَ بَصَرُ الغير عليه، ذلِكَ يعني غَضُّ الْبَصَرِ وَحِفْظُ الْفَرْجِ، أَزْكى لَهُمْ، يعني خَيْرٌ لَهُمْ وَأَطْهَرُ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ، يعني عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ.
«١٥١٤» رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «يَا عَلَيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لك الآخرة».
وفي إسناده شريك بن عبد الله، وهو سيىء الحفظ، وقد روى له مسلم متابعة.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلى من حديث شريك.
وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! مع أن فيه أيضا أبو ربيعة الإيادي، ولم يرويا له شيئا، والصواب أنه حسن في الشواهد.
- وأخرجه الطحاوي في «المشكل» ١٨٦٦ من طريق شريك فجعله من مسند علي.
- وورد من وجه آخر عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ابن إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التيمي عن سلمة بن أبي الطفيل عن علي مرفوعا بلفظ «يا علي إن لك كنزا، وإنك ذو قرينها، فلا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأولى، وليست لك الآخرة».
وإسناده ضعيف، له علتان: ابن إسحاق مدلس، وقد عنعن، وسلمة مجهول، ومع ذلك صححه الحاكم! ووافقه الذهبي! في حين ذكر الذهبي سلمة في «الميزان» ٢/ ١٩١ فقال: قال ابن خراش مجهول.
- الخلاصة: هو حديث حسن بشاهده، وانظر «أحكام القرآن» ١٥٨٣.
(١) في المخطوط «جاز».
(٢) زيادة عن المخطوط.