إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ، الْقَبِيحَةَ حَتَّى رَأَوْهَا حَسَنَةً، فَهُمْ يَعْمَهُونَ، أَيْ يَتَرَدَّدُونَ فِيهَا مُتَحَيِّرِينَ.
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ، شِدَّةُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ بِبَدْرٍ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَصَارُوا إِلَى النَّارِ.
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ، أي تؤتى الْقُرْآنَ، مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، أَيْ وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ، أَيْ وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ فِي مَسِيرِهِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ، إِنِّي آنَسْتُ نَارًا، أَيْ أَبْصَرْتُ نَارًا، سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ، أَيْ امْكُثُوا مَكَانَكُمْ سآتيكم بخبر عن الطريق أو النار، وَكَانَ قَدْ تَرَكَ الطَّرِيقَ، أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِشِهَابٍ بِالتَّنْوِينِ جَعَلُوا الْقَبَسَ نَعْتًا لِلشِّهَابِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَهُوَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الشِّهَابَ وَالْقَبَسَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ الْعُودُ الَّذِي فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ فيه نَارٌ، وَلَيْسَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ نَارٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشِّهَابُ هُوَ شَيْءٌ ذُو نُورٍ، مِثْلَ الْعَمُودِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ أَبِيضَ ذِي نُورٍ شِهَابًا، وَالْقَبَسُ:
الْقِطْعَةُ مِنَ النَّارِ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، تَسْتَدْفِئُونَ مِنَ الْبَرْدِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الشتاء.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨ الى ١٠]
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠)
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها، أَيْ بُورِكَ عَلَى مَنْ فِي النار أو فيمن [١] فِي النَّارِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بَارَكَهُ اللَّهُ وَبَارَكَ فِيهِ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْبَرَكَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَالْمَلَائِكَةِ، مَعْنَاهُ: بُورِكَ فِي مَنْ طَلَبَ النَّارَ، وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَنْ حَوْلَهَا وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ حَوْلَ النَّارِ، وَمَعْنَاهُ: بُورِكَ فِيكَ يَا مُوسَى وَفِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَوْلَ النَّارِ، وَهَذَا تَحِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمُوسَى بِالْبَرَكَةِ، كَمَا حَيَّا إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ. وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ المراد بالنار النور، وذكر بِلَفْظِ النَّارِ لِأَنَّ مُوسَى حَسِبَهُ نارا مَنْ فِي النَّارِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ.
وَذَلِكَ أَنَّ النُّورَ الَّذِي رَآهُ موسى [عليه السلام] [٢] كَانَ فِيهِ مَلَائِكَةٌ لَهُمْ زَجَلٌ بالتقديس والتسبيح، ومن حَوْلَهَا [هُوَ] [٣] مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا. وَقِيلَ: مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حوله جَمِيعًا الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: مَنْ فِي النار موسى ومن حَوْلَهَا الْمَلَائِكَةُ، وَمُوسَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّارِ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا كَمَا يُقَالُ بَلَغَ فُلَانٌ الْمَنْزِلَ إِذَا قَرُبَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ بَعْدُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّارِ.
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عباس أنه قال: معناه [أن] [٤] بُورِكَتِ النَّارُ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيًّا يَقْرَأُ: «أَنْ بُورِكَتِ النار ومن حولها»،
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) زيادة عن المخطوط.
(٤) زيادة عن المخطوط.