عَلَيْهِ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَرْقَأُ دَمْعُهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَكَانَ أَصَابَ الْخَطِيئَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً فَقَسَّمَ الدَّهْرَ بَعْدَ الْخَطِيئَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أيام: يوم للقضاء في [١] بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَوْمٌ لِنِسَائِهِ وَيَوْمٌ يَسْبَحُ فِي الْفَيَافِي وَالْجِبَالِ وَالسَّوَاحِلِ، وَيَوْمٌ يَخْلُو فِي دَارٍ لَهُ فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِحْرَابٍ، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الرُّهْبَانُ فَيَنُوحُ مَعَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَيُسَاعِدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ نِيَاحَتِهِ يَخْرُجُ فِي الْفَيَافِي فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي وَيَبْكِي مَعَهُ الشَّجَرُ وَالرِّمَالُ وَالطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ [٢] حَتَّى يَسِيلَ مِنْ دُمُوعِهِمْ مِثْلَ الْأَنْهَارِ، ثُمَّ يَجِيءُ إِلَى الْجِبَالِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي وتبكي [٣] مَعَهُ الْجِبَالُ وَالْحِجَارَةُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ، حَتَّى تَسِيلَ مِنْ بُكَائِهِمُ الْأَوْدِيَةُ، ثم يجييء إِلَى السَّاحِلِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي وَتَبْكِي مَعَهُ الْحِيتَانُ وَدَوَابُّ الْبَحْرِ وَطَيْرُ الْمَاءِ وَالسِّبَاعُ، فَإِذَا أَمْسَى رَجَعَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ نَوْحِهِ عَلَى نَفْسِهِ نَادَى مُنَادِيهِ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ نَوْحِ دَاوُدَ عَلَى نَفْسِهِ فَلْيَحْضُرْ مَنْ يُسَاعِدُهُ، فَيَدْخُلُ الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الْمَحَارِيبُ فيبسط له ثلاث فُرُشٍ مُسُوحٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا وَيَجِيءُ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَاهِبٍ عَلَيْهِمُ الْبَرَانِسُ وَفِي أَيْدِيهِمُ الْعِصِيُّ فَيَجْلِسُونَ [٤] فِي تِلْكَ الْمَحَارِيبِ ثُمَّ يَرْفَعُ دَاوُدُ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَرْفَعُ الرُّهْبَانُ مَعَهُ [٥] أَصْوَاتَهُمْ فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى تَغْرَقَ الْفُرُشُ مِنْ دُمُوعِهِ، وَيَقَعَ دَاوُدُ فِيهَا مِثْلَ الْفَرْخِ يَضْطَرِبُ، فَيَجِيءُ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ فَيَحْمِلُهُ فَيَأْخُذُ دَاوُدُ مِنْ تِلْكَ الدُّمُوعِ بِكَفَّيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ اغْفِرْ لِي مَا تَرَى، فَلَوْ عُدِلَ بُكَاءُ دَاوُدَ ببكاء أهل الدنيا لعدله [٦].
قال وَهْبٌ: مَا رَفَعَ دَاوُدُ رَأْسَهُ حَتَّى قَالَ لَهُ الْمَلَكُ أَوَّلُ أمرك ذنب [٧] وآخره مغفرة ارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَمَكَثَ حَيَاتَهُ لَا يَشْرَبُ مَاءً إِلَّا مَزَجَهُ بِدُمُوعِهِ، وَلَا يَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بَلَّهُ بِدُمُوعِهِ.
«١٨٠٦» وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ عَيْنَيْ دَاوُدَ كَقِرْبَتَيْنِ [٨] تَنْطِفَانِ مَاءً، وَلَقَدْ خَدَّتِ الدُّمُوعُ فِي وَجْهِهِ كَخَدِيدِ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ».
قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ قَالَ: يَا رَبِّ غَفَرْتَ لِي فَكَيْفَ لِي أَنْ لَا أَنْسَى خَطِيئَتِي فَأَسْتَغْفِرَ مِنْهَا وَلِلْخَاطِئِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: فَوَسَمَ اللَّهُ خَطِيئَتَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى فَمَا رَفَعَ فِيهَا طَعَامًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا بَكَى إِذَا رَآهَا، وَمَا قَامَ [٩] خَطِيبًا فِي النَّاسِ إِلَّا بَسَطَ رَاحَتَهُ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ لِيَرَوْا وَسْمَ خَطِيئَتِهِ، وَكَانَ يَبْدَأُ إِذَا دَعَا فَاسْتَغْفَرَ لِلْخَاطِئِينَ قَبْلَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ: كَانَ دَاوُدُ بَعْدَ الْخَطِيئَةِ لَا يُجَالِسُ إِلَّا الْخَاطِئِينَ، يَقُولُ: تَعَالَوْا إِلَى دَاوُدَ الْخَاطِئِ فَلَا يَشْرَبُ شَرَابًا إِلَّا مَزَجَهُ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ وَكَانَ يَجْعَلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ الْيَابِسِ فِي قَصْعَةٍ [١٠] فَلَا يَزَالُ يَبْكِي عَلَيْهِ حَتَّى يَبْتَلَّ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ، وكان يذر عليه الملح [والتراب] [١١] وَالرَّمَادَ فَيَأْكُلُ وَيَقُولُ هَذَا أَكْلُ
(١) في المطبوع «بين» والمثبت عن المخطوط.
(٢) في المطبوع «الوحش» والمثبت عن المخطوط. [.....]
(٣) في المطبوع «يبكي» والمثبت عن المخطوط.
(٤) في المطبوع «فيجلس» والمثبت عن المخطوط و «ط».
(٥) في المطبوع «مع» والمثبت عن المخطوط و «ط».
(٦) هذا الأثر وأشباهه من ترّهات الإسرائيليين وأساطيرهم.
(٧) في المطبوع «تب» والمثبت عن «ط» والمخطوط.
(٨) في المخطوط «كعريش».
(٩) في المطبوع «كان» والمثبت عن المخطوط و «ط».
(١٠) في المخطوط «قصعته».
(١١) زيادة عن المخطوط.