فأصبح علماً قائماً بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورُتَّب ذلك على حسب ترتب المصحف. وتم ذلك على أيدى طائفة من العلماء منهم ابن ماجه المتوفى سنة ٢٧٣هـ، وابن جرير الطبرى المتوفى سنة ٣١٠هـ، وأبو بكر بن المنذر النيسابورى المتوفى سنة ٣١٨هـ، وابن أبى حاتم المتوفى سنة ٣٢٧هـ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة ٣٦٩هـ، والحاكم المتوفى سنة ٤٠٥هـ، وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة ٤١٠هـ، وغيرهم من أئمة هذا الشأن.
وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الصحابة، والتابعين، وتابع التابعين، وليس فيها شئ من التفسير أكثر من التفسير المأثور، اللَّهم إلا ابن جرير الطبرى فإنه ذكر الأقوال ثم وجهَّها، ورجَّح بعضها على بعض، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة، واستبط الأحكام التى يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية... وسنأتى بالكلام عن هذا التفسير عند الكلام عن الكتب المؤلَّفة فى التفسير بالمأثور إن شاء الله تعالى.
وإذا كان التفسير قد خطا هذه الخطوة الثالثة التى انفصل بها عن الحديث، فليس معنى أن هذه الخطوة محت ما قبلها وألغت العمل به، بل معناه أن التفسير تدرح فى خطواته، فبعد أن كانت الخطوة الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقى والرواية، كانت الخطوة الثانية له، وهى تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة، وهى تدوينه على استقلال وانفراد، فكل هذه الخطوات، تم إسلام بعضها إلى بعض، بل وظل المحدِّثون بعد هذه الخطوة الثالثة، يسيرون على نمط الخطوة الثانية، من رواية المنقول من التفسير فى باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين فى ذلك على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة أو عن التابعين.
* *
* ليس من السهل معرفة أول من دَوَّن تفسير كل القرآن مرتَّباً:
هذا.. ولا نستطيع أن نُعيِّن بالضبط، المفسِّر الأول الذى فسرَّ القرآن آية آية، ودوَّنه على التتابع وحسب ترتيب المصحف. ونجد فى الفهرست لابن النديم (ص ٩٩) أن أبا العباس ثعلب قال: "كان السبب فى إملاء كتاب الفرَّاء فى المعانى أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعاً إلى الحسن بن سهل فكتب إلى الفرَّاء: إن الأمير الحسن بن سهل، ربما سألنى عن الشئ بعد الشئ