وإنَّا لنلحظ فى وضوح وجلاء: أن كل مَن برع فى فن من فنون العلم، يكاد يقتصر تفسيره على الفن الذى برع فيه، فالنحوى تراه لا هَمَّ له إلا الإعراب وذكر ما يحتمل فى ذلك من أوجه، وتراه ينقل مسائل النحو وفروعه وخلافياته، وذلك كالزَجَّاج، والواحدى فى "البسيط"، وأبى حيان فى "البحر المحيط"..
وصاحب العلوم العقلية، تراه يعنى فى تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، كما تراه يعنى بذكر شبُههم والرد عليهم، وذلك كالفخر الرازى فى كتابه "مفاتيح الغيب".
وصاحب الفقه تراه قد عنى بتقريره الأدلة للفروع الفقهية، والرد على مَن يخالف مذهبه، وذلك كالجصَّاص، والقرطبى..
وصاحب التاريخ، ليس له شغل إلا القصص، وذكر أخبار مَن سَلَف، ما صح منها وما لا يصح، وذلك كالثعلبى والخازن..
وصاحب البدع، ليس له قصد إلا أن يُؤوِّل كلام الله ويُنزله على مذهبه الفاسد، وذلك كالرمانى، والجبائى، والقاضى عبد الجبار، والزمخشرى من المعتزلة، والطبرسى، وملا محسن الكاشى من الإمامية الإثنا عشرية.
وأصحاب التصوف قصدوا إلى ناحية الترغيب والترهيب. واستخراج المعانى الإشارية من الآيات القرآنية بما يتفق مع مشاربهم، ويتناسب مع رياضاتهم ومواجيدهم، ومن هؤلاء ابن عربى، وأبو عبد الرحمن السلمى..
وهكذا فسَّر كل صاحب فن أو مذهب بما يتناسب مع فنه أو يشهد لمذهبه، وقد استمرت هذه النزعة العلمية العقلية وراجت فى بعض العصور رواجاً عظيماً، كما راجت فى عصرنا الحاضر تفسيرات يريد أهلها من ورائها أن يُحَمِّلوا آيات القرآن كل العلوم، ما ظهر منها وما لم يظهر، كأن هذا فيما يبدو وجه من وجوه إعجاز القرآن وصلاحيته لأن يتمشى مع الزمن. وفى الحق أن هذا غلو منهم، وإسراف يُخرج القرآن عن مقصده الذى نزل من أجله، ويحيد به عن هدفه الذى يرمى إليه.
وسوف نتكلم على ذلك بتوسع عند الكلام عن التفسير العلمى إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا الطغيان العقلى العلمى، لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذى يجعله فى عداد ما درس وذهب، بل وُجِد من العلماء فى عصور مختلفة، مَن استطاع أن يقاوم تيار هذا الطغيان، ففسَّر القرآن تفسيراً نقلياً بحتاً، على توسع منهم فى النقل، وعدم تفرقة بين ما صح وما لم يصح، كما فعل السيوطى فى كتابه "الدر المنثور".
* *