أما باقى الروايات الموقوفة على ابن عباس، والتى تفيد أن الذبيح هو إسحاق، فهى - وإن كانت صحيحة الأسانيد - محمولة على أن ما تضمنته من أن الذبيح هو إسحاق، كان رأى ابن عباس فى أول الأمر، لأنه سمع ذلك من بعض الصحابة الذين كانوا يحدِّثون فى مثل هذا بما سمعوه من كعب وغيره من مسلمى اليهود، ثم علم بعد: أن ذلك قول اليهود فرجع عنه وصرَّح بنقيضه، كما قال ابن جرير: "حدَّثنى يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنى عمر بن قيس، عن عطاء بن أبى رباح، عن عبد الله بن عباس أنه قال: المفدَّى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود"، وهذا الأثر صحيح عن ابن عباس، إسناده على شرط الصحيح، وهو كما ترى صريح فى تكذيب اليهود فيما زعموه، وهو يقضى على كل أثر بخلافه، وبهذا الطريق تنتظم الآثار الواردة عن ابن عباس فى هذا الباب. قال ابن كثير فى تفسيره (جـ ٤ ص ١٧) بعد ما ساق الروايات فى أن الذبيح هو إسحاق: "وهذه الأقوال - والله أعلم - كلها مأخوذة عن كعب الأحبار، فإنه لما أسلم فى الدولة العمرية جعل يُحدِّث عمر رضى الله عنه عن كتبه قديماً، فربما استمع له عمر رضى الله عنه، فترخَّص الناس فى استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأُمَّة - والله أعلم - حاجة إلى حرف واحد مما عنده".
وأما ما رمى إليه من جعل التفسير المأثور مساوياً للتفسير بالعلم، وادعاؤه أنه لا يوجد له وحدة تامة أو كيان قائم، فهذا شطط منه فى الرأى، ولا يكاد يسلم له هذا المدَّعى، لأن المأثور الذى صح عن النبى ﷺ له مكانته وقيمته، ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى﴾ [النجم: ٤].. وأما ما صح عن الصحابة فغالبه مما تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقليل منه قالوه عن نظر منهم واجتهاد وحتى هذا القليل - عند مَنْ لا يرى أن له حكم المرفوع - له أيضاً قيمته ومكانته، ولا يجوز العدول عنه إذا صح إلى غيره، لأنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التى اختُصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح.
وبعد.. فهل يعُدَ التفسير المأثور مساوياً للتفسير بالعلم؟ اللَّهم إن هذا لا يقوله منصف.
* *
* قيمة التفسير الموضوع:
ثم إن هذا التفسير الموضوع، لو نظرنا إليه من ناحيته الذاتية بصرف النظر عن ناحيته الإسنادية، لوجدنا أنه لا يخلو من قيمته العلمية، لأنه مهما كثر الوضع فى التفسير فإن الوضع ينصب على الرواية نفسها، أما التفسير فى حد ذاته فليس دائماً


الصفحة التالية
Icon