يكتسبه العبد كسباً، ويُوجدِه الله جَلَّ ثناؤه عَيْناً منشأة، بل ذلك أحرى أن يُضاف إلى مكتسبه كسباً له بالقوة منه عليه، والاختيار منه له، وإلى الله جلَّ ثناؤه بإيجاد
عَيْنه وإنشائها تدبيراً".
وكثيراً ما نجد ابن جرير يتصدى للرد على المعتزلة فى كثير من آرائهم الاعتقادية، فنراه مثلاً يجادلهم مجادلة حادة فى تفسيرهم العقلى التنزيهى للآيات التى تثبت رؤية الله عند أهل السُّنَّة، كما نراه يذهب إلى ما ذهب إليه السَلَف من عدم صرف آيات الصفات عن ظاهرها، مع المعارضة لفكرة التجسيم والتشبيه، والرد على أُولئك الذين يُشَبِّهون الله بالإنسان.
... وهكذا نجد ابن جرير لم يقف كمفسِّر موقفاً بعيداً عن مسائل النزاع التى تدور حول العقيدة فى عصره، بل نراه يشارك فى هذا المجال من الجدل الكلامى بنصيب لا يُستهان به، مع حرصه كل الحرص على أن يحتفظ بسُنِّيته ضد وجوه النظر التى لا تتفق وتعاليم أهل السُّنَّة.
وبعد.. فإن ما جمعه ابن جرير فى كتابه من أقوال المفسِّرين الذين تقدَّموا عليه، وما نقله لنا من مدرسة ابن عباس، ومدرسة ابن مسعود، ومدرسة على بن أبى طالب، ومدرسة أُبَىّ بن كعب، وما استفاده مما جمعه ابن جريج والسدى وابن إسحاق وغيرهم من التفاسير جعلت هذا الكتاب أعظم الكتب المؤلَّفة فى التفسير بالمأثور، كما أن ما جاء فى الكتاب من إعراب، وتوجيهات لُغوية، واستنباطات فى نواح متعددة، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، كان نقطة التحول فى التفسير، ونواة لما وُجِد بعد من التفسير بالرأى، كما كان مظهراً من مظاهر الروح العلمية السائدة فى هذا العصر الذى يعيش فيه ابن جرير.
وفى الحق إن شخصية ابن جرير الأدبية والعلمية، جعلت تفسيره مرجعاً مهماً من مراجع التفسير بالرواية، فترجيحاته المختلفة تقوم على نظرات أدبية ولُغوية وعلمية قيِّمة، فوق ما جمع فيه من الروايات الأثرية المتكاثرة.
وعلى الإجمال، فخير ما وُصِف به هذا الكتاب ما نقله الداودى عن أبى محمد عبد الله بن أحمد الفرغانى فى تاريخه حيث قال: "فتم من كتبه - يعنى محمد بن جرير - كتاب تفسير القرآن، وجوَّده، وبيَّن فيه أحكامه، وناسخه ومنسوخة،


الصفحة التالية
Icon